فصل: (بَابُ الرِّبَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ) مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ:

وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِمَّا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ) إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْبَيْعِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِتَكُونَ اتِّفَاقِيَّةً، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُجِيزُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ جَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ الطَّعَامَ بِالنَّهْيِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي لَفْظٍ «حَتَّى يَقْبِضَهُ» قُلْنَا: قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَ الطَّعَامِ أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَئِمَّةُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَعَضَّدَ قولهُ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ إلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ابْتَعْت زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْته لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي فِيهِ رِبْحًا حَسَنًا فَأَرَدْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتَ فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْته حَتَّى تَحُوزَهُ إلَى رَحْلِك، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ»، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: سَنَدُهُ جَيِّدٌ.
وَقَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ أَيْضًا فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ هَذِهِ الْبُيُوعَ وَأَبِيعُهَا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ؟ قَالَ: لَا تَبِيعَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَقْبِضَهُ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ابْنُ عِصْمَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُخَرِّجِينَ مِنْهُمْ مَنْ يُدْخِلُ ابْنَ عِصْمَةَ بَيْنَ ابْنِ مَاهَكَ وَحَكِيمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا، وَابْنُ عِصْمَةَ ضَعِيفٌ جِدًّا فِي قول بَعْضِهِمْ.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ مَجْهُولٌ، وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ نَفْسِهِ عَنْ حَكِيمٍ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ قَاسِمِ بْنِ أَصَبْغَ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِصْمَةَ الْجُشَمِيَّ حِجَازِيٌّ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: إنَّهُ ضَعِيفٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَكِلَاهُمَا مُخْطِئٌ، وَقَدْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ هَذَا بِالنُّصَيْبِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِصْمَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وَالْحَاجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الْعَقَارِ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُذْكَرُ هُنَاكَ وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ عَلَّلَ الْحَدِيثَ (لِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ) الْأَوَّلِ (عَلَى اعْتِبَارِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ) قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَتَبَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»، وَالْغَرَرُ: مَا طُوِيَ عَنْك عِلْمُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّا رَأَيْنَا التَّصَرُّفَ فِي إبْدَالِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ جَائِزًا فَلَا يَضُرُّهَا غَرَرُ الِانْفِسَاخِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَهْرِ لَهَا، وَبَدَلُ الْخُلْعِ لِلزَّوْجِ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ، وَبَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ إذْ كَانَتْ لَا تَنْفَسِخُ بِالْهَلَاكِ فَظَهَرَ أَنَّ السَّبَبَ مَا قُلْنَا، هَذَا وَقَدْ أَلْحَقُوا بِالْبَيْعِ غَيْرَهُ فَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا التَّصَدُّقُ بِهِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَا إقْرَاضُهُ وَرَهْنُهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا أَجَازَ مُحَمَّدٌ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِي الْأُجْرَةِ قَبْلَ قَبْضِهَا إذَا كَانَتْ عَيْنًا أَوْلَى، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْعِوَضِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ وَالْأُجْرَةِ إذَا كَانَتْ عَيْنًا فِي الْإِجَارَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ الدَّيْنِ إذَا كَانَ عَيْنًا، لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَأَنْ يُشْرِكَ فِيهِ غَيْرَهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا لَا يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْعِوَضِ فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ، كَالْمَهْرِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ كُلُّ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَيْنًا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ فِي قول أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَرِثَ عَنْهُ، فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ وَالْقَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ تَمَامَ هَذَا الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمَانِعَ زَائِلٌ عِنْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَقَاسَهُ بِهِبَةِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنَّهَا تَجُوزُ إذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ إذْ لَا مَانِعَ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَائِبًا عَنْهُ ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ قَالَ أَطْعِمْ عَنْ كَفَّارَتَيْ جَازَ، وَيَكُونُ الْفَقِيرُ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ ثُمَّ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقول: الْبَيْعُ أَسْرَعُ نَفَاذًا مِنْ الْهِبَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، وَأَيْضًا هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ وَغَرَرُ الِانْفِسَاخِ يَمْنَعُ تَمَامَهُ فَكَانَ قَاصِرًا فِي حَقِّ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، وَأَمَّا أَعْتِقْ عَنْ كَفَّارَتِي فَإِنَّهُ طَلَبُ التَّمْلِيكِ لَا تَصَرُّفٌ مَبْنِيَّ عَلَى الْمِلْكِ الْقَائِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ اُعْتُبِرَ الْغَرَرُ امْتَنَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَضْعَفُ؛ لِأَنَّ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ يَتَحَقَّقُ بِهِ قَبْلَهُ، وَيَزِيدُ بِاعْتِبَارِ الْهَلَاكِ أَيْضًا فَكَانَ أَكْثَرَ مَظَانًّا قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهُ بَعْدَهُ يَسُدُّ بَابَ الْبَيْعِ، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ وَهَبَهُ يَجُوزُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَجَازًا عَنْ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا النَّهْيُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ مُجَاوِرٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُوجِبَ الْفَسَادَ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، أُجِيبُ بِأَنَّ الْغَرَرَ فِي الْمَبِيعِ لَا مُجَاوِرَ لَهُ، فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَوْ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمُشْتَرِي عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ، وَأُورِدَ عَلَى التَّأْثِيرِ أَنَّ بُعْدَ تَسْلِيمِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ: أَيُّ امْتِنَاعٍ فِيهِ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لَمْ يَصِحَّ فَيُتَرَادَّانِ، وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ فِي الشُّفْعَةِ وَالْبَيْعِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ) رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَاعْتِبَارًا بِالْمَنْقول وَصَارَ كَالْإِجَارَةِ، وَلَهُمَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، وَلَا غَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ فِي الْعَقَارِ نَادِرٌ، بِخِلَافِ الْمَنْقول، وَالْغَرَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِهِ عَمَلًا بِدَلَائِل الْجَوَازِ وَالْإِجَارَةِ، قِيلَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْمَنَافِعُ وَهَلَاكُهَا غَيْرُ نَادِرٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ قولهُ الْآخَرُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ) وَهُوَ قول أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، وَقول الشَّافِعِيِّ (رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ الْحَدِيثِ) يَعْنِي عُمُومَهُ، وَهُوَ مَا فِي حَدِيثِ حَكِيمٍ مِنْ قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «لَا تَبِيعَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَقْبِضَهُ» بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَنْقول: أَعْنِي قوله: «نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَعِ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ» وَلِلنَّهْيِ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلَوْ بَاعَ الْعَقَارَ بِرِبْحٍ يَلْزَمُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَصَارَ بَيْعُ الْعَقَارِ كَإِجَارَتِهِ وَإِجَارَتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَا تَجُوزُ فَكَذَا بَيْعُهُ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ إنَّمَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْحَادِثِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمِلْكُ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِتَأَكُّدِ السَّبَبِ، وَفِي هَذَا الْعَقَارُ وَالْمَنْقول سَوَاءٌ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ) وَالْمَانِعَ الْمُثِيرَ لِلنَّهْيِ وَهُوَ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ مُنْتَفٍ.
(فَإِنَّ هَلَاكَ الْعَقَارِ نَادِرٌ) وَالنَّادِرُ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ إلَّا إذَا صَارَ بَحْرًا وَنَحْوُهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَصِيرَ بَحْرًا أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الرِّمَالُ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمَنْقول ذَكَرَهُ الْمَحْبُوبِيُّ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ: حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عُلُوًّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ (مَعْلُولٌ بِهِ) أَيْ بِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ بِالْغَرَرِ نَافِذٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ الْعِتْقُ وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهِ، وَبِهِ ظَهَرَ فَسَادُ قولهِمْ إنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِتَأَكُّدِ السَّبَبِ، وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي اسْتِدْعَاءِ مِلْكٍ تَامٍّ فَوْقَ الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ الْعِتْقُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: التَّزَوُّجُ لَا يَبْطُلُ بِالْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَهْرُ الْمُعَيَّنُ لَزِمَ الزَّوْجَ قِيمَتُهُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ، وَأُورِدَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ تَخْصِيصُ عُمُومِهِ فَيُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ، وَالْمَعْنَى عَلَى النَّصِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، الْجَوَابُ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ أَشْيَاءَ: مِنْهَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَكَذَا الْمَهْرُ يَجُوزُ لَهَا بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَكَذَا الزَّوْجُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، وَكَذَا رَبُّ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا مَلَكَهُ غَيْرُهُ وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ جَازَ، وَكَذَا أَخْذُ الشَّفِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمَلُّكَهُ حِينَئِذٍ شِرَاءٌ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَوْ كَانَ الْعَقَارُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ لَمْ يَثْبُتْ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهَذَا يَخْرُجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَأَمَّا الْإِلْحَاقُ بِالْإِجَارَةِ فَفِي مَنْعِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَنْعٌ فَإِنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْإِجَارَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ إلَّا أَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْقول وَالْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ فَيَمْتَنِعُ جَوَازُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَفِي الْكَافِي وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى: وَإِذَا عُرِفَ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ وَفِي الْمَبِيعِ لَا يَجُوزُ كَانَ تَتْمِيمُهُ بِأَنْ يَذْكُرَ هُنَا مَا يُمَيِّزُ الْمَبِيعَ عَنْ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّفَ فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانٌ أَبَدًا وَذَوَاتُ الْقِيَمِ مَبِيعَةٌ أَبَدًا وَالْمِثْلِيَّاتُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ إذَا قُوبِلَتْ بِالنَّقْدِ مَبِيعَةٌ أَوْ بِالْأَعْيَانِ وَهِيَ مُعَيَّنَةُ ثَمَنٍ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَمَبِيعَةٌ، كَمَنْ قَالَ اشْتَرَيْت كُرًّا مِنْ الْحِنْطَةِ بِهَذَا الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ، وَقِيلَ الْمِثْلِيَّاتُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً وَقُوبِلَتْ بِغَيْرِهَا ثَمَنٌ مُطْلَقًا، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهَا الْبَاءُ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْأَثْمَانُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ اسْتِبْدَالًا فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْقَرْضِ وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ، وَالْمَبِيعَاتُ تَقَدَّمَ حَالُهَا عِنْدَ ذِكْرِنَا الْإِلْحَاقَ، وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا وَسَلَّمَهُ ثُمَّ أَقَالَ فَبَيْعُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ يَجُوزُ، وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَجُوزُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قولانِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيْعَ مَتَى انْفَسَخَ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ فَبَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَمَا هُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ ثَالِثٍ يَجُوزُ مِنْ الْمُشْتَرِي كَالْأَجْنَبِيِّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً فَاكْتَالَهُ أَوْ اتَّزَنَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرَى مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَأْكُلَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَذَلِكَ لِلْبَائِعِ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الثَّوْبَ مُذَارَعَةً؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ إذْ الذَّرْعُ وَصْفٌ فِي الثَّوْبِ، بِخِلَافِ الْقَدْرِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَلَا تَسْلِيمَ إلَّا بِحَضْرَتِهِ، وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ الْبَيْعِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قِيلَ لَا يُكْتَفَى بِهِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ صَاعَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْلُومًا بِكَيْلٍ وَاحِدٍ وَتَحَقَّقَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ اجْتِمَاعُ الصَّفْقَتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِ السَّلَمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَعْدُودَ عَدًّا فَهُوَ كَالْمَذْرُوعِ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا، وَكَالْمَوْزُونِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمَشْرُوطِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً أَوْ مَوْزُونًا مُوَازَنَةً) أَيْ اشْتَرَاهُ عَلَى كَذَا كَيْلًا أَوْ رَطْلًا (فَاكْتَالَهُ أَوْ اتَّزَنَهُ) لِنَفْسِهِ (ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أَوْ مُوَازَنَةً) فِي الْمَوْزُونِ (لَمْ يَجُزْ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ، وَصَاعُ الْمُشْتَرِي) رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَكَذَا لَكِنْ بِلَفْظِ الصَّاعَانِ مُعَرَّفًا أَسْنَدَهُ عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَأُعِلَّ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَبِلَفْظِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِيهِ: «فَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ الزِّيَادَةُ وَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ» رَوَاهُ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهُ طَرِيقَانِ أُخْرَيَانِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ضَعِيفَانِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ كَانَا يَبْتَاعَانِ التَّمْرَ وَيَجْعَلَانِهِ فِي غَرَائِرَ ثُمَّ يَبِيعَانِهِ بِذَلِكَ الْكَيْلِ، فَنَهَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَاهُ حَتَّى يَكِيلَا لِمَنْ ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا» فَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِكَثْرَةِ تَعَدُّدِ طُرُقِهِ وَقَبُولِ الْأَئِمَّةِ إيَّاهُ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ بِقولنَا هَذَا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَحِينَ عَلَّلَهُ الْفُقَهَاءُ بِجَعْلِهِ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ إذْ بِالْكَيْلِ يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ عَنْ حَقِّ الْبَائِعِ إذْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ أَوْ أَزْيَدَ فَيَضِيعُ مَالُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ مَالُ الْبَائِعِ عِنْدَهُ فَأَلْحَقُوا بِمَنْعِ الْبَيْعِ مَنْعَ الْأَكْلِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَكُلَّ تَصَرُّفٍ يُبْنَى عَلَى الْمِلْكِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا وَأَلْحَقُوا بِالْمَكِيلِ الْمَوْزُونَ، وَيَنْبَغِي إلْحَاقُ الْمَعْدُودِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ إذَا اُشْتُرِيَ مُعَادَّةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ الْعَدِّ ثَانِيًا لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ، وَهُوَ وُجُوبُ تَعَرُّفِ الْمِقْدَارِ وَزَوَالُ احْتِمَالِ اخْتِلَاطِ الْمَالَيْنِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ لِلْبَائِعِ خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ الثَّانِي قَبْلَ الْعَدِّ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يُلْحِقُوهَا؛ فَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ جَازَ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الذَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، وَلَوْ نَقَصَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا بَاعَهُ بِلَا ذَرْعٍ كَانَ مُسْقِطًا خِيَارَهُ عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْصِ وَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَكِيلُ أَوْ الْمَوْزُونُ مَبِيعًا، فَلَوْ كَانَ ثَمَنًا بِأَنْ اشْتَرَى بِهَذَا الْبُرِّ عَلَى أَنَّهُ كُرٌّ فَقَبَضَهُ جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ جَائِزٌ، فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِ قَبْضِهِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ مِنْهُ بَيْعُ الطَّعَامِ إلَّا مُكَايَلَةً فَيَقْتَضِي مَنْعَ بَيْعِهِ مُجَازَفَةً، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ ظَاهِرَهُ مَتْرُوكٌ وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ مُكَايَلَةً.
أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً بِيعَ صُبْرَةً فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ اخْتِلَاطُ الْمِلْكَيْنِ، وَقول الْمُصَنَّفِ فِيهِ (لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَهُ) قِيلَ: مَعْنَاهُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا كَانَ يَظُنُّهُ بِأَنْ ابْتَاعَ صُبْرَةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا عَشَرَةٌ فَظَهَرَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَتَكَلَّفَ غَيْرُهُ، وَكَذَا مَا يُفِيدُ ظَاهِرُهُ مِنْ الْتِزَامِ جَرَيَانِ الصَّاعَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ مُكَايَلَةً وَبَاعَهُ كَذَلِكَ، أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إذَا بَاعَهُ مُكَايَلَةً إلَى كَيْلٍ وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي.
وَقول الرَّاوِي حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ مَعْنَاهُ صَاعُ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً، أَمَّا لَوْ كَانَ مَلَكَهُ بِالْإِرْثِ أَوْ الزِّرَاعَةِ أَوْ اشْتَرَى مُجَازَفَةً أَوْ اسْتَقْرَضَ حِنْطَةً عَلَى أَنَّهَا كُرٌّ ثُمَّ بَاعَهَا فَالْحَاجَةُ إلَى صَاعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ صَاعُ هَذَا الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ تَمْلِيكًا بِعِوَضٍ كَالشِّرَاءِ لَكِنَّهُ شِرَاءٌ صُورَةً عَارِيَّةٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّ مَا يَرُدُّهُ عَيْنُ الْمَقْبُوضِ حُكْمًا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ قَبْضُ بَدَلِهِ فِي مَالِ الصَّرْفِ فَكَانَ تَمْلِيكًا بِلَا عِوَضٍ حُكْمًا؛ وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُكَايَلَةً ثُمَّ بَاعَهَا مُجَازَفَةً قَبْلَ الْكَيْلِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ اخْتِلَاطِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمِلْكِ بَائِعِهِ، وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ يَجُوزُ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَبِيعِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، وَنَصَّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ وَقَدْ قَبَضَهُ بِلَا كَيْلٍ لَا يُقَالُ إنَّهُ أَكَلَ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّهُ آثِمٌ لِتَرْكِهِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْكَيْلِ، فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ أَصْلًا فِي سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا قَبَضَهَا فَمَلَكَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إذَا أَكَلَهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَكَلَ حَرَامًا.
قولهُ: (وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ) مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي (وَإِنْ كَانَ) كَالَهُ لِنَفْسِهِ (بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي) عَنْ شِرَائِهِ هُوَ (لِأَنَّهُ لَيْسَ صَاعَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهُوَ الشَّرْطُ) بِالنَّصِّ (وَلَا بِكَيْلِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ) الثَّانِي (بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي) وَغَيْبَةِ وَكِيلِهِ فِي الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْغَائِبِ لَا يَتَحَقَّقُ وَهَذَا الْكَيْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لِتَسْلِيمِ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ (وَإِنْ كَالَهُ) أَوْ وَزَنَهُ (بَعْدَ الْعَقْدِ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي) مَرَّةً فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، قَالَ عَامَّتُهُمْ: كَفَاهُ ذَلِكَ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ إذَا قَبَضَهُ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا بُدَّ مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مَرَّتَيْنِ احْتِجَاجًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ قول الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ صَيْرُورَةُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا وَقَدْ حَصَلَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ وَاتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ، وَمَحْمَلُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ إذَا وُجِدَ عَقْدَانِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا لِأَجْلِ رَبِّ السَّلَمِ وَأَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ اقْتِضَاءً عَنْ سَلَمِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ يُشْتَرَطُ صَاعَانِ: صَاعٌ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ، وَصَاعٌ لِرَبِّ السَّلَمِ فَيَكِيلُهُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ ثُمَّ يَكِيلُهُ لِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ كَيْلِهِ بِغَيْبَتِهِ لِانْتِفَاءِ التَّسْلِيمِ مِنْ الْغَائِبِ فَيَثْبُتُ احْتِمَالُ الِاخْتِلَاطِ فَلَا يَجُوزُ، وَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ مَا فِي الْجَامِعِ فِي بَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ إذَا كَالَ الْبَائِعُ قَفِيزًا مِنْهَا بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ أَنَّ الْبَيْعَ قَائِمٌ فِي قَفِيزٍ مِمَّا بَقِيَ وَلَا يَقَعُ بِهِ الْإِفْرَازُ، وَمِنْ هُنَا يَنْشَأُ فَرْعٌ وَهُوَ مَا لَوْ كِيلَ الطَّعَامُ بِحَضْرَةِ رَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ بَعْدَ شِرَائِهِ لَا يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ سَوَاءٌ اكْتَالَهُ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكْتَلْ بَعْدَ شِرَائِهِ هُوَ لَمْ يَكُنْ قَابِضًا فَبَيْعُهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَجُوزُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) لِقِيَامِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَلَيْسَ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهَا بِالتَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ) فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ، بَلْ عَلَى اعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الصِّلَةِ، لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ مِلْكَهُ عِوَضَ مِلْكِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَكَذَا الْحَطُّ؛ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَصَارَ بِرًّا مُبْتَدَأً، وَلَنَا أَنَّهُمَا بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ يُغَيِّرَانِ الْعَقْدَ مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ كَوْنُهُ رَابِحًا أَوْ خَاسِرًا أَوْ عَدْلًا، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الرَّفْعِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغَيُّرِ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَسْقَطَا الْخِيَارَ أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إذَا صَحَّ يَلْتَحِق بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ يَقُومُ بِهِ لَا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِأَصْلِهِ لَا تَغْيِيرٌ لِوَصْفِهِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ حَتَّى يَجُوزَ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ وَيُبَاشِرَ عَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ وَفِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَ بِمَا بَقِيَ فِي الْحَطِّ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ الثَّابِتِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالَةٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يُسْتَنَدُ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ بِحَالٍ يُمْكِنُ إخْرَاجُ الْبَدَلِ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَيُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتِنَادًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالتَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ) بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَنَا سِوَى بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ بِالنَّصِّ لِغَرَرِ الِانْفِسَاخِ، وَلَيْسَ فِي الثَّمَنِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَسَائِرُ الدُّيُونِ كَالثَّمَنِ لِعَدَمِ الْغَرَرِ بِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ كَالْمَهْرِ وَالْأُجْرَةِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَاسْتِثْنَاءُ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ لِلْمَقْبُوضِ حُكْمَ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الصَّرْفِ وَأَيَّدَهُ السَّمْعُ وَهُوَ مَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَال: «كُنْت أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ حُجْرَتَهُ فَأَخَذْت بِثَوْبِهِ فَسَأَلْته فَقَالَ: إذَا أَخَذْت وَاحِدًا مِنْهَا بِالْآخَرِ فَلَا يُفَارِقْكَ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ بَيْعٌ، فَإِنَّ هَذَا بَيْعُ الثَّمَنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالنَّقْدِ الْمُخَالِفِ لَهُ»، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقول التِّرْمِذِيِّ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ لَا يَضُرُّهُ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةُ، قَالَ حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَحَدَّثَنِي دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَحَدَّثَنِي فُلَانٌ أَرَاهُ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَفَعَهُ سِمَاكٌ وَأَنَا أَهَابُهُ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَارَ فِي تَعَارُضِ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ تَقْدِيمُ الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ ابْنِ عُمَرَ وَشِدَّةِ اتِّبَاعِهِ لِلْأَثَرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي أَحَدَ النَّقْدَيْنِ عَنْ الْآخَرِ مُسْتَمِرًّا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَرَّفَهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ وَبَيْنَهُمَا بَيْعٌ مَعْنَاهُ دَيْنٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فَمَنَعَ النَّسِيئَةَ فِيهِ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَالصَّرْفُ فِيهِ جَائِزٌ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرَّثَ فِي الْمِلْكِ وَكَانَ لِلْمَيِّتِ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ، فَكَذَا لِلْوَارِثِ وَكَذَا الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.
قولهُ: (وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَزِيدَ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ، وَيَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَزِيدَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ) وَسَنَذْكُرُ شَرْطَ كُلٍّ مِنْهُمَا (وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ) مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ حَتَّى كَانَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الزِّيَادَةَ إذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ وَلَا مُطَالَبَةَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ إعْطَائِهَا، وَلَوْ سَلَّمَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ رَجَعَ بِهَا مَعَ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَفِي صُورَةِ الْحَطِّ لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إذَا سَلَّمَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ (وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِحَّانِ) أَيْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ (عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ) بِأَصْلِ الْعَقْدِ (بَلْ الزِّيَادَةُ بِرٌّ مُبْتَدَأٌ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي) وَالْحَطُّ إبْرَاءٌ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ مَتَى رَدَّهُ يَرْتَدُّ، وَجْهُ قولهِمَا أَنَّ الْمَبِيعَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ الْتَحَقَ الْعَقْدَ صَارَ مِلْكَهُ وَهُوَ مَا زَادَهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمَبِيعُ.
وَكَذَا الثَّمَنُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَوْ جَازَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ كَانَ الْمَزِيدُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ: أَعْنِي الثَّمَنَ، قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ مَا ذَكَرْتُمْ لَوْ الْتَحَقَا بِالْعَقْدِ مَعَ عَدَمِ تَغْيِيرِهِ، لَكِنَّا إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ غَيَّرَا الْعَقْدَ عَنْ وَجْهِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ كَوْنُهُ بِذَلِكَ الْمِقْدَارِ إلَى كَوْنِهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَرَأَيْنَا الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُمَا وِلَايَةَ تَحْوِيلِ الْعَقْدِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ وَمِنْ وُجُودِهِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ إلَى إعْدَامِهِ بِلَا سَبَبٍ سِوَى اخْتِيَارِهِمَا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَحْوِيلُهُ مِنْ عَدَمِ اللُّزُومِ إلَى اللُّزُومِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَعَكْسُهُ بِإِلْحَاقِ الْخِيَارِ، وَكَذَا مِنْ كَوْنِهِ حَالًّا إلَى مُؤَجَّلٍ بِإِلْحَاقِ الْأَجَلِ كَمَا سَنَذْكُرُ فِي تَأْجِيلِ الثَّمَنِ الْحَالِّ عِنْدَنَا، وَأَمَّا الثَّانِي فَبِالْإِقَالَةِ وَهِيَ تُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا تَغْيِيرُهُ مِنْ وَصْفِ كَوْنِهِ رَابِحًا إلَى خَاسِرًا أَوْ خَاسِرًا إلَى رَابِحٍ، وَإِلَى كَوْنِهِ عَدْلًا، وَثَبَتَ صِحَّةُ الْحَطِّ شَرْعًا فِي الْمَهْرِ بِقولهِ تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا إذَا تَرَاضَيَا بَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ عَلَى حَطِّ بَعْضِهِ أَوْ زِيَادَتِهِ جَازَ، وَإِذَا ثَبَتَ تَصْحِيحُ ذَلِكَ لَزِمَ الِالْتِحَاقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ضَرُورَةً إذْ تَغْيِيرُهُ يُوجِبُ كَوْنَهُ عَقْدًا بِهَذَا الْقَدْرِ فَبِالضَّرُورَةِ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِهِ إذْ وَصْفُ الشَّيْءِ يَقُومُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَطَّ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِأَصْلِهِ إذْ يَصِيرُ الْبَدَلُ الْآخَرُ هِبَةً فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ إلَى عَقْدِ التَّبَرُّعِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ الِالْتِحَاقُ انْتَفَى قولهُمْ: الزِّيَادَةُ عِوَضٌ عَنْ مِلْكِهِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَا (وَيَظْهَرُ حُكْمُ الِالْتِحَاقِ فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ فَتَجُوزُ) الْمُرَابَحَةُ (عَلَى الْكُلِّ) مِنْ الْأَصْلِ وَالزَّائِدِ، وَيَجِبُ أَنْ يُرَابِحَ عَلَى الْمَبِيعِ الْأَوَّلِ وَمَا زَادَهُ الْبَائِعُ مَبِيعًا لَا الْأَوَّلُ فَقَطْ، وَكَذَا التَّوْلِيَةُ (وَيُبَاشِرُ) الْعَقْدَ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ (عَلَى الْبَاقِي) بَعْدَ الْحَطِّ (وَ) كَذَا (فِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يَأْخُذَهَا) الشَّفِيعُ (بِالْبَاقِي) فَقَطْ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ الْتَحَقَا لَزِمَ أَنْ يَأْخُذَهَا الشَّفِيعُ فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ الْأَصْلِ وَالزَّائِدِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بَلْ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِدُونِ الزِّيَادَةِ، أَوْ يُقَالُ فَلِمَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَ الْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّفِيعِ؟ أَجَابَ بِقولهِ (وَإِنَّمَا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا) فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ (بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ الثَّابِتِ) قَبْلَهَا، فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِأَخْذِهَا بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّرَاضِي الْأَوَّلُ وَعُقِدَ بِهِ، وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّمَنِ تَصَرُّفٌ حَادِثٌ مِنْهُمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمَا ذَلِكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ شَرْطَ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ.
فَقَالَ: (ثُمَّ الزِّيَادَةُ) إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي أَنَّ شَرْطَهَا قِيَامُ الْمَبِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ فَلَوْ هَلَكَ حَقِيقَةً بِأَنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ الدَّابَّةُ أَوْ حُكْمًا بِأَنْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ بَاعَ أَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ أَوْ آجَرَ أَوْ رَهَنَ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَوْ طَبَخَ اللَّحْمَ أَوْ طَحَنَ الْحِنْطَةَ، أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ أَوْ تَخَمَّرَ الْعَصِيرُ أَوْ أَسْلَمَ مُشْتَرِي الْخَمْرِ ذِمِّيًّا لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْعَقْدِ، إذْ الْعَقْدُ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْمَطْحُونِ وَالْمَنْسُوجِ وَلِهَذَا يَصِيرُ الْغَاصِبُ أَحَقَّ بِهَا إذَا فَعَلَ فِي الْمَغْصُوبِ ذَلِكَ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَهْرِ شَرْطُهَا بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ، فَلَوْ زَادَ بَعْدَ مَوْتِهَا لَا تَصِحُّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ الْمَبِيعَةَ ثُمَّ زَادَ حَيْثُ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ، وَكَذَا إذَا آجَرَ أَوْ رَهَنَ أَوْ خَاطَ الثَّوْبَ أَوْ اتَّخَذَ الْحَدِيدَ سَيْفًا أَوْ قَطَعَ يَدَ الْمَبِيعِ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهُ حَيْثُ تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ صُوَرِ الْهَلَاكِ (لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى حَالٍ يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ) وَالِالْتِحَاقُ وَإِنْ كَانَ يَقَعُ مُسْتَنِدًا فَالْمُسْتَنَدُ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا فِي الْحَالِّ ثُمَّ يَسْتَنِدَ، وَثُبُوتُهُ مُتَعَذِّرٌ لِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ فَتَعَذَّرَ اسْتِنَادُهُ فَلَا يَثْبُتُ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ لَا يَنْبَرِمُ بِالْإِجَازَةِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ هَالِكًا وَقْتَهَا قولهُ: (عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ كَمَا يَصِحُّ الْحَطُّ بَعْدَ هَلَاكِهِ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَكَذَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَضَمِنَهَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا عِوَضًا، وَهَذَا الِالْتِزَامُ صَحِيحٌ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ كَمَا لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ أَوْ صَالَحَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مَالٍ وَضَمِنَهُ صَحَّ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْأَجْنَبِيُّ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ هَذَا فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ فَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى وَتَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ (بِخِلَافِ الْحَطِّ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْهَلَاكِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ حَطُّ (الْبَدَلِ) أَيْ الثَّمَنِ (عَمَّا يُقَابِلُهُ) وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ الْقَدْرِ الْمَحْطُوطِ عَنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا، فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قِيَامُ الثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ فَيَثْبُتُ الْحَطُّ مُلْتَحِقًا بِأَصْلِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ بِسَبَبِ الْعَيْبِ بَعْدَ الْهَلَاكِ؟ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَبِهِ يَكُونُ الثَّمَنُ مَا سِوَى مَا رَجَعَ بِهِ، فَإِسْقَاطُ عِوَضِ الْمَعْدُومِ يَصِحُّ وَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ لَا يَصِحُّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إبْرَاءَهُ مُطْلَقًا فَكَذَا مُؤَقَّتًا، وَلَوْ أَجَّلَهُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ: (وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍّ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا)؛ لِمَا ذَكَرْنَا (إلَّا الْقَرْضَ) فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةٌ وَصِلَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظَةِ الْإِعَارَةِ، وَلَا يَمْلِكُهُ مِنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْإِعَارَةِ، إذْ لَا جَبْرَ فِي التَّبَرُّعِ وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فُلَانًا إلَى سَنَةٍ حَيْثُ يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ مِنْ ثُلُثِهِ أَنْ يُقْرِضُوهُ وَلَا يُطَالِبُوهُ قَبْلَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَرُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى فَيَلْزَمُ حَقًّا لِلْمُوصِي، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا صَارَ مُؤَجَّلًا) وَهُوَ قول مَالِكٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا قولهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ حَالٍّ لَا يَصِيرُ مُؤَجَّلًا بِالتَّأْجِيلِ وَهُوَ قول زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَالًّا لَيْسَ إلَّا وَعْدًا بِالتَّأْخِيرِ، قُلْنَا (الثَّمَنُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ) وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ الدَّعْوَى وَهُوَ لُزُومُ الْأَجَلِ بِالتَّأْجِيلِ فَإِنَّهُ يَقول: لَا شَكَّ أَنَّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّأْخِيرُ شَرْعًا إذَا أَخَّرَ، وَقولهُ (أَلَا تَرَى) إلَى آخِرِهِ يُسْتَدَلُّ بِهِ مُسْتَقِلًّا فِي الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتُ عِنْدَ إسْقَاطِهِ السُّقُوطَ وَالتَّأْجِيلَ الْتِزَامُ الْإِسْقَاطِ إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَيَثْبُتُ شَرْعًا السُّقُوطُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا ثَبَتَ شَرْعًا سُقُوطُهُ مُطْلَقًا بِإِسْقَاطِهِ مُطْلَقًا (وَلَوْ أَجَّلَهُ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ إنْ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ) وَمَجِيءِ الْمَطَرِ (لَا يَجُوزُ) وَلَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ بِهِ ابْتِدَاءً (وَإِنْ كَانَتْ) يَسِيرَةً (كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ يَجُوزُ) وَيَلْزَمُ كَمَا إذَا كَفَلَ إلَيْهَا (وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي آخِرِ بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ لِيَفْسُدَ بِهِ بَلْ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ (وَكُلُّ دَيْنٍ إذَا أَجَّلَهُ صَاحِبُهُ صَارَ مُؤَجَّلًا لَمَا ذَكَرْنَا، إلَّا الْقَرْضَ فَإِنَّ تَأْجِيلَهُ لَا يَصِحُّ) وَلَوْ شَرَطَ الْأَجَلَ فِي ابْتِدَاءِ الْقَرْضِ صَحَّ الْقَرْضُ وَبَطَلَ الْأَجَلُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَصِحُّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُقْرِضُ فَأَجَّلَ وَرَثَتُهُ صَرَّحَ قَاضِي خَانَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الْمُقْرِضُ، وَقول صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ عَلَى قول الْبَعْضِ لَا يُعَارِضُهُ وَلَا يُفِيدُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَجِّلَ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْقَرْضِ أَوْ قَبْلَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَيْسَ مِنْ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ تَأْجِيلُ بَدَلِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إذْ بِاسْتِهْلَاكِهَا لَا تَصِيرُ قَرْضًا، وَالْحِيلَةُ فِي لُزُومِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ أَنْ يُحِيلَ الْمُسْتَقْرِضُ الْمُقْرِضَ عَلَى آخَرَ بِدَيْنِهِ فَيُؤَجِّلَ الْمُقْرِضُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَيَلْزَم حِينَئِذٍ.
وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ (لِأَنَّهُ صِلَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِعَارَةٌ حَتَّى يَصِحَّ) الْقَرْضُ (بِلَفْظِ أَعَرْتُك) هَذِهِ الْأَلْفَ بَدَلَ أَقْرَضْتُك وَنَحْوِهِ (وَ) لِهَذَا (لَا يَمْلِكُهُ مَنْ لَا يَمْلِكُ الصِّلَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ كَالْوَصِيِّ وَالصَّبِيِّ) وَالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ (وَمُعَاوَضَةٌ فِي الِانْتِهَاءِ)؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ لِيَأْخُذَ بَدَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا يَلْزَمُ رَدُّ مِثْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخْذُ مِثْلِهِ (فَعَلَى اعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ لَا يَلْزَمُ التَّأْجِيلَ، كَمَا) لَا يَلْزَمُ تَأْجِيلُ (الْإِعَارَةِ) فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَهُ الْمَتَاعَ إلَى شَهْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فِي الْحَالِ إذْ لَا تَأْجِيلَ فِي التَّبَرُّعِ (وَعَلَى اعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ لَا يَصِحُّ) أَيْضًا (لِأَنَّهُ يَصِيرُ) بِهَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ (بَيْعَ دَرَاهِمَ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً وَهُوَ رِبًا)؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ كَانَ التَّبَرُّعُ مُلْزِمًا عَلَى الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا كَالْكَفِّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ يُنَافِي مَوْضُوعَ التَّبَرُّعَاتِ، قَالَ تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} نَفَى السَّبِيلَ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِ نُصُوصِيَّةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَلَوْ لَزِمَ تَحَقُّقُ سَبِيلٍ عَلَيْهِ ثُمَّ لِلْمِثْلِ الْمَرْدُودِ حُكْمُ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ رَدَّ الْعَيْنَ، وَلَوْلَا هَذَا الِاعْتِبَارُ كَانَ تَمْلِيكَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بِلَا قَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا كَالْعَيْنِ، وَإِذَا جُعِلَتْ كَالْعَيْنِ فَالتَّأْجِيلُ فِي الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُقْرِضَ مِنْ مَالِهِ أَلْفًا لِفُلَانٍ إلَى سَنَةٍ حَيْثُ يَلْزَمُ) ذَلِكَ (مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِالتَّبَرُّعِ) فَيَلْزَمُ كَمَا تَلْزَمُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ سَنَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فِي الْحَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بَابَ الْوَصِيَّةِ أَوْسَعُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَعْدُومَةً فِي الْحَالِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَنَظَرًا لَهُ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةً، وَلِلرَّحْمَةِ عَلَيْهِ أَجَازَهَا الشَّرْعُ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ مِلْكِيَّتِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.(بَابُ الرِّبَا):

قَالَ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا فَالْعِلَّةُ عِنْدَنَا الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ وَالْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيُقَالُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ وَهُوَ أَشْمَلُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» وَعَدَّ الْأَشْيَاءَ السِّتَّةَ: الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ.
وَيُرْوَى بِرِوَايَتَيْنِ بِالرَّفْعِ مِثْلٌ وَبِالنَّصْبِ مِثْلًا.
وَمَعْنَى الْأَوَّلِ بَيْعُ التَّمْرِ، وَمَعْنَى الثَّانِي بِيعُوا التَّمْرَ، وَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الطَّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ، وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ، وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ.
وَالْأَصْلُ هُوَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْنِ التَّقَابُضِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، فَيُعَلَّلُ بِعِلَّةٍ تُنَاسِبُ إظْهَارَ الْخَطَرِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الطَّعْمُ لِبَقَاءِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ لِبَقَاءِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْمَصَالِحِ بِهَا، وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا وَالْحُكْمُ قَدْ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ.
وَلَنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْبَيْعِ، إذْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ التَّقَابُلِ وَذَلِكَ بِالتَّمَاثُلِ، أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى، أَوْ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ بِاتِّصَالِ التَّسْلِيمِ بِهِ، ثُمَّ يَلْزَمُ عِنْدَ فَوْتِهِ حُرْمَةُ الرِّبَا وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَالْمِعْيَارُ يَسْوَى الذَّاتَ، وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضِ شَرْطٍ فِيهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا، أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ، أَوْ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَالطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ، وَالسَّبِيلُ فِي مِثْلِهَا الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ لِشِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا دُونَ التَّضْيِيقِ فِيهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَهُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الرِّبَا) هُوَ مِنْ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيَّةِ قَطْعًا بِقولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} بِسَبَبِ زِيَادَةٍ فِيهِ فَمُنَاسَبَتُهُ بِالْمُرَابَحَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا زِيَادَةً إلَّا أَنَّ تِلْكَ حَلَالٌ وَهَذِهِ مَنْهِيَّةٌ، وَالْحِلُّ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ فَقُدِّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ، وَالرِّبَا بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَتْحُهَا خَطَأٌ.
قولهُ: (الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِيعَ بِجِنْسِهِ) وَفِي عِدَّةٍ مِنْ النُّسَخِ: الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ إلَى آخِرِهِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا زِيَادَةُ «مُتَفَاضِلًا».
الرِّبَا يُقَالُ لِنَفْسِ الزَّائِدِ، وَمِنْهُ ظَاهِرُ قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} أَيْ الزَّائِدَ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ عَلَى الْمَدْفُوعِ وَالزَّائِدُ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ بَيْعِ بَعْضِهَا بِجِنْسِهِ، وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهَا.
وَيُقَالُ لِنَفْسِ الزِّيَادَةِ: أَعْنِي بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، وَمِنْه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أَيْ حَرَّمَ أَنْ يُزَادَ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَدْفُوعِ وَأَنْ يُزَادَ فِي بَيْعِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ بِجِنْسِهَا قَدْرًا لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِعْلٌ وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي قولهِ: الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ لَفْظِ مُحَرَّمٍ لَا يُرَادُ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى إسْقَاطِ لَفْظِ مُتَفَاضِلًا، أَوْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بِتَقْدِيرِ إثْبَاتِهَا فَكَانَ الْمُرَادُ حُكْمَ الرِّبَا وَهُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا عَلَى اسْتِعْمَالِ الرِّبَا فِي حُرْمَتِهِ فَيَكُونُ لَفْظُ الرِّبَا مَجَازًا، أَوْ عَلَى حَذْفِهِ وَإِرَادَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، وَالرِّبَا مُرَادٌ بِهِ الزِّيَادَةُ مُبْتَدَأٌ، وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ: أَيْ حُرْمَةُ الزِّيَادَةِ ثَابِتَةٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ.
ثُمَّ قولهُ (فَالْعِلَّةُ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ أَوْ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ) مُرَتَّبًا بِالْفَاءِ لَمَّا عُرِفَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ يُوجِبُ كَوْنَ مَبْدَإِ الِاشْتِقَاقِ عِلَّتَهُ، وَلَمَّا رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعَ الْجِنْسِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلَّةَ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ (وَ) قَدْ (يُقَالُ) بَدَلَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ (الْقَدْرُ وَهُوَ أَشْمَلُ) وَأَخْصَرُ لَكِنَّهُ يَشْمَلُ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذَا يَشْمَلُ الْعَدَّ وَالذَّرْعَ وَلَيْسَا مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا: أَيْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ كَوْنُهُ مَكِيلًا مَعَ اتِّحَادِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْجِنْسِ فَهِيَ عِلَّةٌ مُرَكَّبَةٌ (وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ) أَخْرَجَ السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مِثْلَهُ سَوَاءً» وَزَادَ بَعْدَ قوله: «يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى»، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلَهُ وَزَادَ بَعْدَ قوله: «فَقَدْ أَرْبَى إلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِيعُوا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ «مِثْلٌ» بِالرَّفْعِ فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» وَهَكَذَا قَالَ إلَى آخِرِ السِّتَّةِ، وَكَذَا مَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ هَكَذَا» إلَى آخِرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَذَكَرَ التَّمْرَ بَعْدَ الْمِلْحِ آخِرًا.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا» إلَى أَنْ قَالَ: «وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةً فَلَا، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا» انْتَهَى.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَوَازَ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى زِيَادَةِ الْفِضَّةِ وَالشَّعِيرِ، بَلْ لَوْ كَانَ الزَّائِدُ الذَّهَبَ وَالْبُرَّ جَازَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ مِنْ تَفْضِيلِ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ وَالْبُرِّ عَلَى الشَّعِيرِ.
قولهُ: (وَالْحُكْمُ) يَعْنِي حُرْمَةَ الرِّبَا أَوْ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ (مَعْلُولٌ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ) أَيْ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْقِيَاسِ عِنْدَ شَرْطِهِ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَذَا عُثْمَانُ الْبَتِّيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ حُكْمَ الرِّبَا مُقْتَصِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا.
أَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَلِأَنَّهُمْ يَنْفُونَ الْقِيَاسَ، وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَلِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ فِي كُلِّ أَصْلٍ أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ هُنَا وَلِأَنَّهُ يُبْطِلُ الْعَدَدَ وَلَا يَجُوزُ كَمَا فِي قوله: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ» قُلْنَا: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ كَالطَّعَامِ فِي قوله: «لَا تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ دَلِيلٌ، وَسَنُقِيمُ عَلَيْهِ الدَّلِيلَ.
وَأَمَّا إبْطَالُ الْعَدَدِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَالْإِبْطَالُ الْمَمْنُوعُ هُوَ الْإِبْطَالُ بِالنَّقْصِ، أَمَّا بِالزِّيَادَةِ بِالْعِلَّةِ فَلَا، وَتَخْصِيصُ هَذِهِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلَاتِ الْكَائِنَةِ يَوْمئِذٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ فِيهَا، وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ قَصْرُ حُكْمِ الرِّبَا عَلَى السِّتَّةِ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَأْثُورٌ عَنْ قَتَادَةَ وَطَاوُسٍ، قِيلَ فَانْحَزَمَ قولهُ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ.
قولهُ: (لَكِنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ، وَبِأَحَدِهِمَا مُفْرَدًا يَحْرُمُ النَّسَاءُ وَيَحِلُّ التَّفَاضُلُ كَمَا سَيَأْتِي (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الطُّعْمُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطٌ وَالْمُسَاوَاةُ مُخَلِّصٌ) مِنْ الْحُرْمَةِ (وَهِيَ) أَعْنِي الْحُرْمَةَ (الْأَصْلُ) وَعِنْدَ مَالِكٍ الْعِلَّةُ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، فَكُلُّ مَا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ فَهُوَ رِبًا وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ الْبُرَّ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ لِيُفِيدَ بِكُلِّ مَعْنًى ظَاهِرًا فِيهِ، فَنَبَّهَ بِالْبُرِّ عَلَى مُقْتَاتٍ تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَتَقُومُ الْأَبْدَانُ بِهِ، وَالشَّعِيرُ يُشَارِكُهُ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَفًا وَقُوتًا لِبَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ فَيَلْحَقُ بِهِ الذُّرَةُ وَنَحْوُهَا، وَنَبَّهَ بِالتَّمْرِ عَلَى كُلِّ حَلَاوَةٍ تُدَّخَرُ غَالِبًا كَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالزَّبِيبِ، وَبِالْمِلْحِ عَلَى أَنَّ مَا أَصْلَحَ الْمُقْتَاتَ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ فَهُوَ فِي حُكْمِهَا فَيُلْحَقُ الْأَبَازِيرُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ مُعَلَّلَانِ بِعِلَّةٍ قَاصِرَةٍ عِنْدَهُمْ وَهِيَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْأَشْيَاءِ وَأُصُولَ الْأَثْمَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: الْعِلَّةُ الطُّعْمُ مَعَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ، وَفِي الْجَدِيدِ: هِيَ الطُّعْمُ فَقَطْ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالثَّمَنِيَّةُ فِي النَّقْدَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا عَيْنَهُمَا وَالتَّعَدِّي إلَى الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَجْهٌ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا رِبًا فِيهَا لِانْتِفَاءِ الثَّمَنِيَّةِ الْغَالِبَةِ وَهُوَ قول أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَالْجِنْسِيَّةُ شَرْطُ عَمَلِ الْعِلَّةِ وَعَنْ هَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ نَسَاءً.
وَعَلَى الْجَدِيدِ يَحْرُمُ الرِّبَا فِي الْمَاءِ، وَجْهُ قولهِ قولهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالطَّعَامُ مُشْتَقٌّ مِنْ الطُّعْمِ فَكَانَ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً، وَرُوِيَ «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ» إلَى آخِرِهِ.
فَأَفَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ أَصْلٌ وَالْمُسَاوَاةَ مُخَلِّصٌ مِنْهَا، إذْ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَى قوله: «لَا تَبِيعُوا» لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُطْلَقًا، فَمَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُسَاوَاةُ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ فَامْتَنَعَ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ وَالْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا النَّصِّ، إذَا يَجُوزُ الْحَفْنَةُ بِالْحَفْنَتَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ يُفِيدُ أَنَّهَا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ، وَلَوْ أَخَذْنَا فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّتِهِ أَدَّانَا إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ أَيْضًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى شَرْطَيْ التَّقَابُضِ وَالتَّمَاثُلِ وَهَذَا الِاشْتِرَاطُ (يُشْعِرُ بِالْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ كَاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ) فَوَجَبَ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّةٍ تُوجِبُ الْعِزَّةَ وَالْخَطَرَ، وَفِي الطُّعْمِ ذَلِكَ لِتَعَلُّقِ بَقَاءِ النُّفُوسِ بِهِ وَالثَّمَنِيَّةُ الَّتِي بِهَا يُتَوَصَّلُ إلَى تَحْصِيلِ الْعُرُوضِ الَّتِي بِهَا حُصُولُ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ بَقَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا مِنْ حُصُولِ الشَّهَوَاتِ (وَلَا أَثَرَ لِلْجِنْسِيَّةِ) وَالْقَدْرِ (فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي إظْهَارِ الْعِزَّةِ وَالْخَطَرِ (فَجَعَلْنَاهُ شَرْطًا، وَالْحُكْمُ قَدْ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ) كَالرَّجْمِ مَعَ الْإِحْصَانِ (وَلَنَا أَنَّهُ) أَيْ النَّصُّ الْمَشْهُورُ (أَوْجَبَ التَّمَاثُلَ شَرْطًا لِلْبَيْعِ) وَإِيجَابُ الْمُمَاثَلَةِ (هُوَ الْمَقْصُودُ بِسَوْقِ الْحَدِيثِ) إذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إضْمَارِ لَفْظِ بِيعُوا حَيْثُ انْتَصَبَ مِثْلًا: أَيْ بِيعُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ هِيَ الْأَصْلُ.
وَقوله: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ» الْحَدِيثَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ النَّهْيُ إلَى مَا بَعْدَ إلَّا نَحْوَ مَا جَاءَ زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا، وَحَاصِلُهُ الْأَمْرُ بِالتَّسْوِيَةِ عِنْدَ بَيْعِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْبَيْعِ الْمُنْبِئِ عَنْ التَّقَابُلِ إذْ كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ فَاسْتَدْعَى شَيْئَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ وَكَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَاهُ بِالتَّمَاثُلِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُسَاوٍ لِلْآخَرِ فِي كَوْنِهِ مُسْتَدْعِيَ الْعَقْدِ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْقَدْرِ لِيَتِمَّ مَعْنَى الْبَيْعِ (أَوْ) أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ (صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى) فَإِنَّهُ إذَا قُوبِلَ بِجِنْسِهِ قَابَلَ كُلُّ جُزْءٍ كُلَّ جُزْءٍ، فَإِذَا كَانَ فَضْلٌ فِي أَحَدِهِمَا صَارَ ذَلِكَ الْفَضْلُ تَاوِيًا عَلَى مَالِكِهِ، فَلِقَصْدِ صِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ التَّوَى أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُوبِلَ الْمَالُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ جُزْءٌ لَمْ يُقَابَلْ بِجُزْءٍ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّوَى إلَّا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ مَعَ تَحَقُّقِ الْفَضْلِ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ، ثُمَّ مِنْ تَتْمِيمِ التَّمَاثُلِ الْمُسَاوَاةُ فِي التَّقَابُضِ فَإِنَّ لِلْحَالِ مَزِيَّةً عَلَى الْمُؤَخَّرِ فَإِيجَابُ التَّقَابُضِ أَيْضًا لِذَلِكَ وَبِهِ ظَهَرَ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّيَانَةِ عَنْ التَّفَاوُتِ حِفْظًا عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ) تَمَامُهَا (بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَالْمِعْيَارُ يَسْوَى الذَّاتَ) أَيْ الصُّورَةَ (وَالْجِنْسِيَّةُ تَسْوَى الْمَعْنَى فَيَظْهَرَ بِذَلِكَ الْفَضْلُ فَيَتَحَقَّقَ الرِّبَا، لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْمُسْتَحَقُّ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْخَالِي عَنْ عِوَضِ شَرْطٍ فِيهِ) أَيْ فِي الْعَقْدِ، وَعَلِمْت أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الْمُعَاوَضَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ فَلَزِمَ مَا قُلْنَا مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ مَعَ الْجِنْسِ (وَلَمْ يُعْتَبَرْ) فِي إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ عَدَمُ تَفَاوُتِ (الْوَصْفِ) إمَّا (لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عُرْفًا) وَفِيهِ نَظَرٌ (أَوْ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ) وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو عِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ عَنْ تَفَاوُتٍ مَا فَلَمْ يُعْتَبَرْ.
وَقولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» إنْ صَحَّ يُفِيدُهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُفَادٌ مِنْ حَدِيثِ بَيْعِ التَّمْرِ بِالْجَنِيبِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَعِلَّةُ إهْدَارِهِ مَا ذَكَرْنَا، وَعِنْدَ تَأَمُّلِ هَذَا الْكَلَامِ يَتَبَادَرُ أَنَّ الْمُتَنَاظِرَيْنِ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَكَذَا مَالِكٌ عَيَّنُوا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عَلَى شَرْعِ الْحُكْمِ، وَهَؤُلَاءِ عَيَّنُوا الْعِلَّةَ بِمَعْنَى الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ، فَإِنَّ الْكَيْلَ يُعَرِّفُ الْمُمَاثَلَةَ فَيُعْرَفُ الْجَوَازُ وَعَدَمَهَا فَيُعْرَفُ الْحُرْمَةُ.
فَالْوَجْهُ أَنْ يَتَّحِدَ الْمَحَلُّ وَذَلِكَ بِجَعْلِهَا الطُّعْمَ وَالِاقْتِيَاتَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرُوا عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَنَا هِيَ قَصْدُ صِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَحِفْظِهَا عَلَيْهِمْ، وَظُهُورُ هَذَا الْقَصْدِ مِنْ إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِقْدَارِ وَالتَّقَابُضِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى لُبٍّ فَضْلًا عَنْ فَقِيهٍ.
وَأَمَّا الطُّعْمُ فَرُبَّمَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِهِ مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ لِأَنَّ الطُّعْمَ مِمَّا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ اشْتِدَادًا تَامًّا (وَالسَّبِيلُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ دُونَ التَّضْيِيقِ) فَإِنَّ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ جَرَتْ فِي حَقِّ جِنْسِ الْإِنْسَانِ أَنَّ مَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ أَكْثَرَ كَانَ إطْلَاقُ الشَّرْعِ فِيهِ أَوْسَعَ كَالْمَاءِ وَالْكَلَإِ لِلدَّوَابِّ، فَإِنْ قَالَ: دَلَّ التَّرْتِيبُ عَلَى الْمُشْتَقِّ عَلَيْهِ، قُلْنَا: ذَلِكَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ صَالِحًا مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ الطَّعَامَ مُشْتَقٌّ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِبَعْضِ الْأَعْيَانِ الْخَاصَّةِ وَهُوَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ لَا يَعْرِفُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذَا الْخِطَابِ غَيْرَهُ بَلْ التَّمْرُ وَهُوَ غَالِبُ مَأْكُولِهِمْ لَا يُسَمُّونَهُ طَعَامًا وَلَا يَفْهَمُونَهُ مِنْ لَفْظِ الطَّعَامِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا فِيمَا قَدَّمْنَا أَجَازَ التَّصَرُّفَ فِي كُلِّ مَبِيعٍ قَبْلَ الْقَبْضِ سِوَى الطَّعَامِ، قَالَ: لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يُرِدْ كُلَّ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ مِنْ الْبَقْلِ وَالْمَاءِ وَالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، وَهُوَ صَحِيحٌ لَوْلَا دَلِيلٌ آخَرُ عَمَّهُ.
وَإِلْحَاقُهُ بِالْبُضْعِ فِيهِ خَلَلٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ مَصُونٌ شَرْعًا وَعُرْفًا وَعَادَةً عَنْ الِابْتِذَالِ وَالْإِبَاحَةِ فَكَانَ الِاشْتِرَاطُ مِنْ تَحْقِيقِ غَرَضِ الصِّيَانَةِ، بِخِلَافِ بَاقِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّ أَصْلَهَا الْإِبَاحَةُ، وَيُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْهَا مُبَاحًا حَتَّى الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَإِنَّمَا لَزِمَ فِيهَا الْعَقْدُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّ إنْسَانٍ بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ التَّغَالُبِ فَوَضْعُهَا عَلَى ضِدِّ وَضْعِ الْبُضْعِ مِنْ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ دَفْعًا لِلْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَإِلْحَاقُهَا بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا حَصَرُوا الْمُعَرَّفَ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَجَازُوا بَيْعَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ مُجَازَفَةً، فَأَجَازُوا بَيْعَ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالْحَفْنَةِ مِنْ الْبُرِّ بِحَفْنَتَيْنِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمِعْيَارِ الْمُعَرِّفِ لِلْمُسَاوَاةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَضْلُ، وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لَا بِالْمِثْلِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْجَوْزِ مِنْ الْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ.
أَمَّا فِيهِ فَكَلَامُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْجَوْزَةَ مِثْلُ الْجَوْزَةِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ، وَكَذَا التَّمْرَةُ بِالتَّمْرَةِ لَا فِي حُكْمِ الرِّبَا، لِأَنَّ الْجَوْزَةَ لَيْسَتْ مِثْلًا لِلْجَوْزَةِ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْمُمَاثَلَةِ وَلِوُجُودِ التَّفَاوُتِ، إلَّا أَنَّ النَّاسَ أَهْدَرُوا التَّفَاوُتَ فَقُبِلَ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ فَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فَلَا.
وَمِنْ فُرُوعِ ضَمَانِ مَا دُونَ نِصْفِ صَاعٍ بِالْقِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ حَفْنَةً فَعَفِنَتْ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، فَإِنْ أَبَى إلَّا أَنْ يَأْخُذَ عَيْنَهَا أَخَذَهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْفَسَادِ الَّذِي حَصَلَ لَهَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَمَّا كَانَتْ الطَّعْمُ حَرُمَ الْحَفْنَةُ وَالتُّفَّاحَةُ بِثِنْتَيْنِ وَقَالُوا مَا دُونَ نِصْفِ صَاعٍ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ، فَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ وُضِعَتْ مَكَايِيلُ أَصْغَرُ مِنْ نِصْفِ الصَّاعِ لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ بِهَا، وَهَذَا إذَا لَمْ يَبْلُغْ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ نِصْفَ صَاعٍ، فَإِنْ بَلَغَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ صَاعٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ نِصْفِ صَاعٍ فَصَاعِدًا بِحَفْنَةٍ.
وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ قِيلَ: لَا رِوَايَةَ فِي الْحَفْنَةِ بِقَفِيزٍ وَاللُّبِّ بِالْجَوْزِ، وَالصَّحِيحُ ثُبُوتُ الرِّبَا، وَلَا يَسْكُنُ الْخَاطِرُ إلَى هَذَا بَلْ يَجِبُ بَعْدَ التَّعْلِيلِ بِالْقَصْدِ إلَى صِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ تَحْرِيمُ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَالْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ، أَمَّا إنْ كَانَتْ مَكَايِيلُ أَصْغَرُ مِنْهَا كَمَا فِي دِيَارِنَا مِنْ وَضْعِ رُبْعِ الْقَدَحِ وَثُمُنِ الْقَدَحِ الْمِصْرِيِّ فَلَا شَكَّ، وَكَوْنُ الشَّرْعِ لَمْ يُقَدِّرْ بَعْضَ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ بِأَقَلَّ مِنْهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إهْدَارَ التَّفَاوُتِ الْمُتَيَقَّنِ، بَلْ لَا يَحِلُّ بَعْدَ تَيَقُّنِ التَّفَاضُلِ مَعَ تَيَقُّنِ تَحْرِيمِ إهْدَارِهِ، وَلَقَدْ أُعْجَبُ غَايَةَ الْعَجَبِ مِنْ كَلَامِهِمْ هَذَا.
وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ التَّمْرَةَ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ فِي الْكَثِيرِ فَالْقَلِيلُ مِنْهُ حَرَامٌ.

متن الهداية:
إذَا ثَبَتَ هَذَا نَقول إذًا: بَيْعُ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِ لِوُجُوبِ شَرْطِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى مَكَانَ قولهِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ، وَفِي الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ (وَإِنْ تَفَاضَلَا لَمْ يَجُزْ) لِتَحَقُّقِ الرِّبَا وَلَا يَجُوزُ (بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) لِإِهْدَارِ التَّفَاوُتِ فِي الْوَصْفِ (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَالتُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِالْمِعْيَارِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْفَضْلُ، وَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعِلَّةُ هِيَ الطَّعْمُ وَلَا مُخَلِّصَ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فَيَحْرُمُ، وَمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْحَفْنَةِ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي الشَّرْعِ بِمَا دُونَهُ، وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ. وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ.
الشَّرْحُ:
(وَ) يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ مَا لَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا غَيْرَ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَالْجِصِّ وَالْحَدِيدِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْقَدْرِ (وَالْجِنْسِ) مَعَ التَّفَاضُلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لِلصِّيَانَةِ (وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ) هَذَا وَلَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالصِّيَانَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ عَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ وَبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ، وَجَوَازُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَالًّا.
فَإِنْ قِيلَ: الصِّيَانَةُ حِكْمَةٌ فَتُنَاطُ بِالْمُعَرِّفِ لَهَا وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ.
قُلْنَا: إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ خَفَاءِ الْحِكْمَةِ وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا، وَصَوْنُ الْمَالِ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ وَعَدَمَهَا مَحْسُوسٌ وَبِذَلِكَ تُعْلَمُ الصِّيَانَةُ وَعَدَمُهَا، غَيْرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ ضَبْطُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ تَفَادِيًا عَنْ نَقْضِهِ بِالْعَبْدِ بِعَبْدَيْنِ وَثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِهَرَوِيَّيْنِ.
وَفِي الْأَسْرَارِ: مَا دُونَ الْحَبَّةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا قِيمَةَ لَهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ. وَإِذَا وُجِدَا.
حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ.
وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ مِثْلَ أَنْ يُسَلِّمَ هَرَوِيًّا فِي هَرَوِيٍّ أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، فَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ وَعَدَمِهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا شُبْهَةُ الْفَضْلِ، وَحَقِيقَةُ الْفَضْلِ غَيْرُ مَانِعٍ فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَالشُّبْهَةُ أَوْلَى.
وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ وَالنَّقْدِيَّةُ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ فَتَتَحَقَّقَ شُبْهَةُ الرِّبَا وَهِيَ مَانِعَةٌ كَالْحَقِيقَةِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ النُّقُودَ فِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ، وَإِنْ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ فِي صِفَةِ الْوَزْن، فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْأَمْنَاءِ وَهُوَ مُثَمَّنٌ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالنُّقُودُ تُوزَنُ بِالسَّنَجَاتِ وَهُوَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَلَوْ بَاعَ بِالنُّقُودِ مُوَازَنَةً وَقَبَضَهَا صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهَا قَبْلَ الْوَزْنِ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لَا يَجُوزُ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا عُدِمَ الْوَصْفَانِ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ) وَهُوَ الْقَدْرُ (حَلَّ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِمَرْوِيَّيْنِ إلَى أَجَلٍ وَالْجَوْزِ بِالْبِيضِ إلَى أَجَلٍ (لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ) وَعَدَمُ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ، لَكِنْ إذَا اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ لَزِمَ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ لَا بِمَعْنَى أَنَّهَا تُؤَثِّرُ الْعَدَمَ بَلْ لَا يَثْبُتُ الْوُجُودُ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْوُجُودِ فَيَبْقَى عَدَمُ الْحُكْمِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا عُدِمَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ (وَالْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ) مُطْلَقًا (الْإِبَاحَةُ) إلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ مِنْ أَصْنَافِهِ كَانَ الثَّابِتُ الْحِلَّ (وَإِذَا وُجِدَا) أَيْ الْجِنْسُ وَالْمَعْنَى الْمَضْمُومُ إلَيْهِ وَهُوَ الْقَدْرُ (حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) كَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ التَّسَاوِي وَالتَّقَابُضِ (لِوُجُودِ الْعِلَّةِ) الْمُعَرِّفَةِ لِلْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا (وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَعُدِمَ الْآخَرُ حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ مِثْلُ أَنْ يُسَلِّمَ) ثَوْبًا (هَرَوِيًّا فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ) فِي صُورَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ مَعَ عَدَمِ الْمَضْمُومِ إلَيْهِ مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا بِعَبْدٍ إلَى أَجَلٍ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدَ بِعَبْدَيْنِ أَوْ الْهَرَوِيَّ بِهَرَوِيَّيْنِ حَاضِرًا جَازَ (أَوْ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ) فِي صُورَةِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَضْمُومِ وَهُوَ الْمُسَوَّى، وَكَذَا حَدِيدٌ فِي رَصَاصٍ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجُوزَ فُلُوسٌ فِي خُبْزٍ وَنَحْوِهِ فِي زَمَانِنَا لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ (فَحُرْمَةُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْوَصْفَيْنِ) جَمِيعًا (وَحُرْمَةُ النَّسَاءِ بِأَحَدِهِمَا) وَالنَّسَاءُ بِالْمَدِّ لَيْسَ غَيْرُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ لَا يُحَرِّمُ نَسَاءً) لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَ جَيْشًا فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ» وَهَذَا يَكُونُ سَلَمًا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةٍ إلَى أَجَلٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا يُقَالُ لَهُ عُصْفُورٌ بِعَشْرَيْنِ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يُظْهِرُ التَّفَاوُتَ فِيهِ حُكْمًا، وَالتَّفَاوُتُ حَقِيقَةً أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْهُ حُكْمًا، فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ حَقِيقَةً فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِأَنْ بَاعَ الْوَاحِدَ بِالِاثْنَيْنِ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ الْجَوَازِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى جَازَ هَذَا الْبَيْعُ إذَا كَانَ حَالًّا اتِّفَاقًا فَالتَّفَاوُتُ حُكْمًا أَوْلَى، وَهَذَا مَعْنَى قول الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ بِالنَّقْدِيَّةِ إلَى آخِرِهِ (وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الرِّبَا نَظَرًا إلَى الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ وَ) عُرِفَ أَنَّ (النَّقْدِيَّةَ أَوْجَبَتْ فَضْلًا فِي الْمَالِيَّةِ) حَتَّى تُعُورِفَ الْبَيْعُ بِالْحَالِ بِأَنْقَصَ مِنْهُ بِالْمُؤَجَّلِ (فَتَتَحَقَّقُ) بِوُجُودِهِ (شُبْهَةُ) عِلَّةِ (الرِّبَا) فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا (وَشُبْهَةُ الرِّبَا مَانِعَةٌ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا) بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ مُجَازَفَةً وَإِنْ ظَنَّ التَّسَاوِيَ وَتَمَاثَلَتْ الصُّبْرَتَانِ فِي الرُّؤْيَةِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا شُبْهَةُ ثُبُوتِ الْفَضْلِ، بَلْ قَالُوا: لَوْ تَبَايَعَا مُجَازَفَةً ثُمَّ كِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا أَيْضًا خِلَافًا لِزُفَرَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الْجَوَازِ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ، وَكَذَا الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ نَسِيئَةً يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِمَّا أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ قولهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» فَأَلْزَمَ التَّقَابُضَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ تَحْرِيمُ النَّسِيئَةِ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرَهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا النَّسِيئَةُ فَلَا»، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّه: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً» فَقَامَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ وُجُودَ أَحَدِ جُزْأَيْ عِلَّةِ الرِّبَا عِلَّةٌ لِتَحْرِيمِ النَّسَاءِ ثُمَّ عَلَّلْنَا بِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الرِّبَا: أَعْنِي الْفَضْلَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِلشُّبْهَةِ حُكْمَ الْحَقِيقَةِ أَنْ يَحْرُمَ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ التَّفَاضُلُ أَيْضًا، لِأَنَّ لِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ حُكْمَ الْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ حُكْمِ الْعِلَّةِ وَحُكْمُ الْعِلَّةِ هُوَ حُرْمَةُ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ فَيَثْبُتَ فِيهِمَا، ثُمَّ يُقَدَّمُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى حَدِيثِ الْبَعِيرِ بِبَعِيرَيْنِ لِأَنَّهُ مُحَرِّمٌ وَذَلِكَ مُبِيحٌ، أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا.
وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنْ لَا يَجُوزَ إسْلَامُ النُّقُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الزَّعْفَرَانِ وَفِي سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ كَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ.
أَجَابَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْوَزْنَ فِي النُّقُودِ وَفِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّهُ فِي النُّقُودِ بِالْمَثَاقِيلِ وَالدَّرَاهِمِ الصَّنَجَاتِ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ بِالْأَمْنَاءِ وَالْقَبَّانِ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الصُّورَةِ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ وَهُوَ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالزَّعْفَرَانَ وَغَيْرَهُ يَتَعَيَّنُ، وَآخَرُ حُكْمِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ النُّقُودَ مُوَازَنَةً وَقَبَضَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْوَزْنِ، وَتَفْسِيرُهُ لَوْ اشْتَرَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُوَازَنَةً فَوَزَنَهَا الْبَائِعُ بِغَيْبَةِ الْمُشْتَرِي وَسَلَّمَهَا فَقَبَضَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا قَبْلَ وَزْنِهَا ثَانِيًا، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يُشْتَرَطُ إعَادَةُ الْوَزْنِ فِي مِثْلِهِ (فَإِذَا اخْتَلَفَا) أَيْ النَّقْدُ وَالزَّعْفَرَانُ وَنَحْوُهُ (فِيهِ) أَيْ فِي الْوَزْنِ (صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَمْ يَجْمَعْهُمَا الْقَدْرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْزِلُ الشُّبْهَةُ فِيهِ إلَى شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ) وَقولهُ صُورَةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا نَشْرٌ مُرَتَّبٌ بَعْدَ اللَّفِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْيِينَ بِالتَّعْيِينِ وَعَدَمِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَزْنِ، وَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ بِاعْتِبَارِهِ اخْتِلَافًا فِي مَعْنَى الْوَزْنِ، وَكَذَا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ وَالْمِسْكَ وَالزَّبَادَ يُوزَنُ بِالصَّنَجَاتِ أَيْضًا، وَكَذَا الْأَخِيرُ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّقْدِ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ.
وَقولهُ: وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ لَا يَجُوزُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَعْدَمَا اتَّزَنَهُ مِنْ بَائِعِهِ وَقَبَضَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يُعِيدَ الْوَزْنَ مَمْنُوعٌ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُوَازَنَةً مِنْ آخَرَ ثُمَّ يَلْزَمَ بَعْدَ هَذَا الْبَيْعِ أَنْ يَزِنَهُ الْآخَرُ لِيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ لِيَصِحَّ تَصَرُّفُ الْآخَرِ فِيهِ، وَكَذَا نَقول فِي الدَّرَاهِمِ إذَا قَبَضَهَا، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إذَا بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى كَانَتْ ثَمَنًا أَوْ بَاعَهَا لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، بِخِلَافِ الزَّعْفَرَانِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَذَلِكَ ثَمَنٌ وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْحُكْمِيِّ وَحْدَهُ لَا يُوجِبُ اعْتِبَارَهُ غَيْرَ مُشَارِكٍ لَهُ فِي أَصْلِ الْوَزْنِ.
وَإِذَا ضَعُفَ هَذَا فَالْوَجْهُ فِي هَذَا أَنْ يُضَافَ تَحْرِيمُ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ إلَى السَّمْعِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيُلْحَقَ بِهِ تَأْثِيرُ الْكَيْلِ الْوَزْنَ بِانْفِرَادِهِ ثُمَّ يُسْتَثْنَى إسْلَامُ النُّقُودِ فِي الْمَوْزُونَاتِ بِالْإِجْمَاعِ كَيْ لَا يُفْسِدَ أَكْثَرَ أَبْوَابِ السَّلَمِ وَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ خِلَافَ النَّقْدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا كَإِسْلَامِ حَدِيدٍ فِي قُطْنٍ أَوْ زَيْتٍ فِي جُبْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إلَّا إذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَزْنِيًّا بِالصَّنْعَةِ إلَّا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ فَلَوْ أَسْلَمَ سَيْفًا فِيمَا يُوزَنُ جَازَ إلَّا فِي الْحَدِيدِ لِأَنَّ السَّيْفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا وَمَنَعَهُ فِي الْحَدِيدِ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ إنَاءٍ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ يَدًا بِيَدٍ نُحَاسًا كَانَ أَوْ حَدِيدًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَثْقَلَ مِنْ الْآخَرِ، بِخِلَافِهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ رِبَا الْفَضْلِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ وَزْنًا لِأَنَّ صُورَةَ الْوَزْنِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِيهِمَا فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالصَّنْعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْوَزْنِ بِالْعَادَةِ.
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ حِينَئِذٍ إسْلَامُ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِاخْتِلَافِ طَرِيقَةِ الْوَزْنِ.
أُجِيبُ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ النَّقْدِ مُسَلَّمًا فِيهِ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُمَا مُتَعَيِّنَانِ لِلثَّمَنِيَّةِ، وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعًا؟ قِيلَ: إنْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْمُسَلَّمِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، هَذَا وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يُعْرَفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْمِ الْخَاصِّ وَاخْتِلَافُ الْمَقْصُودِ؛ فَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: جِنْسٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ يَقَعُ عَلَيْهِمَا.
قُلْنَا: بَلْ جِنْسَانِ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ اسْمًا وَمَعْنًى، وَإِفْرَادُ كُلٍّ عَنْ الْآخَرِ فِي قولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَإِلَّا قَالَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ، وَكَوْنُ اسْمِ الْأَعَمِّ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَخَصِّ لَا يُوجِبُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُتَمَاثِلًا كَالْحَيَوَانِ يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ مُتَبَايِنَةٍ بِلَا شَكٍّ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ، وَالثَّوْبُ الْهَرَوِيُّ وَالْمَرْوِيُّ وَهُوَ بِسُكُونِ الرَّاءِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ وَقِوَامِ الثَّوْبِ بِهَا، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ الْمَنْسُوجُ بِبَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَاللَّدُّ الْأَرْمَنِيُّ وَالطَّالَقَانِيُّ جِنْسَانِ، وَالتَّمْرُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ وَالشَّبَهُ أَجْنَاسٌ، وَكَذَا غَزْلُ الصُّوفِ وَالشَّعْرُ وَلَحْمُ الْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ وَالْأَلْيَةُ وَاللَّحْمُ وَشَحْمُ الْبَطْنِ أَجْنَاسٌ، وَدُهْنُ الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيُّ جِنْسَانِ، وَالْأَدْهَانُ الْمُخْتَلِفَةُ أُصُولُهَا أَجْنَاسٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْلِ زَيْتٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ بِرَطْلٍ مَطْبُوخٍ مُطَيَّبٍ لِأَنَّ الطِّيبَ زِيَادَةٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا، وَإِنَّ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَكُلُّ مَا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَزْنًا فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْوَزْنَ فِيهِ مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ وَالْأَقْوَى لَا يُتْرَكُ بِالْأَدْنَى (وَمَا لَمْ يَنُصُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ) لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَادَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمَنْظُورُ إلَيْهَا وَقَدْ تَبَدَّلَتْ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيًا وَزْنًا، أَوْ الذَّهَبَ بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ عَلَى مَا هُوَ الْمِعْيَارُ فِيهِ، كَمَا إذَا بَاعَ مُجَازَفَةً إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْلَامُ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا لِوُجُودِ الْإِسْلَامِ فِي مَعْلُومٍ.
قَالَ: (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرَّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) مَعْنَاهُ مَا يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ لِأَنَّهَا قُدِّرَتْ بِطَرِيقِ الْوَزْنِ حَتَّى يُحْتَسَبَ مَا يُبَاعُ بِهَا وَزْنًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَكَايِيلِ، وَإِذَا كَانَ مَوْزُونًا فَلَوْ بِيعَ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ بِمِكْيَالٍ مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي الْوَزْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَازَفَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكُلُّ شَيْءٍ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَيْلًا فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْكَيْلَ فِيهِ) حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهُ وَزْنًا وَإِنْ تَمَاثَلَا فِي الْوَزْنِ إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الْكَيْلِ أَيْضًا (وَكُلُّ مَا نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَزْنًا فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا مِثْلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنْ الْعُرْفِ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَاطِلٍ كَتَعَارُفِ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي إخْرَاجِ الشُّمُوعِ وَالسُّرُجِ إلَى الْمَقَابِرِ لَيَالِيَ الْعِيدِ، وَالنَّصُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَاطِلٍ، وَلِأَنَّ حُجِّيَّةَ الْعُرْفِ عَلَى الَّذِينَ تَعَارَفُوهُ وَالْتَزَمُوهُ فَقَطْ، وَالنَّصُّ حُجَّةٌ عَلَى الْكُلِّ فَهُوَ أَقْوَى، وَلِأَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالنَّصِّ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ».
وَفِي الْمُجْتَبَى: ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ مَا يَعْتَادُهُ أَهْلُ خُوَارِزْمَ مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الرَّبِيعِيَّةِ بِالْخَرِيفِيَّةِ مَوْزُونًا مُتَسَاوِيًا لَا يَجُوزُ (وَمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ) فِي الْأَسْوَاقِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْعَادَةُ (دَلَالَةٌ) عَلَى الْجَوَازِ فِيمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا» الْحَدِيثَ، وَمِنْ ذَلِكَ دُخُولُ الْحَمَّامِ وَشُرْبُ مَاءِ السِّقَاءِ لِأَنَّ الْعُرْفَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَا كَانَ مُسْتَخْرَجًا مِنْ أَصْلٍ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِهِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ كَالدَّقِيقِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ) الْكَيْلِ فِي الشَّيْءِ أَوْ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ إلَّا لِأَنَّ الْعَادَةَ إذْ ذَاكَ بِذَلِكَ (وَقَدْ تَبَدَّلَتْ) فَتَبَدَّلَ الْحُكْمُ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَقْرِيرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَى مَا تَعَارَفُوا مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ مِنْهُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، كَذَا وَجْهٌ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ أَبَا يُوسُفَ لِأَنَّ قُصَارَاهُ أَنَّهُ كَنَصِّهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ يَقول: يُصَارُ إلَى الْعُرْفِ الطَّارِئِ بَعْدَ النَّصِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الْعَادَةِ يَسْتَلْزِمُ تَغَيُّرَ النَّصِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا لَنَصَّ عَلَيْهِ عَلَى وِزَانِ مَا ذَكَرْنَا فِي سُنِّيَّةِ التَّرَاوِيحِ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ بَلْ فَعَلَهُ مَرَّةً ثُمَّ تَرَكَ، لَكِنْ لَمَّا بَيَّنَ عُذْرَ خَشْيَةِ الِافْتِرَاضِ عَلَى مَعْنًى لَوْلَاهُ لَوَاظَبَ حُكِمَ بِالسُّنِّيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْمُوَاظَبَةِ، لِأَنَّا أَمِنَّا مِنْ بَعْدِهِ النَّسْخَ فَحَكَمْنَا بِالسُّنِّيَّةِ، فَكَذَا هَذَا لَوْ تَغَيَّرَتْ تِلْكَ الْعَادَةُ الَّتِي كَانَ النَّصُّ بِاعْتِبَارِهَا إلَى عَادَةٍ أُخْرَى تَغَيَّرَ النَّصُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيًا وَزْنًا وَالذَّهَبَ بِجِنْسِهِ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (وَإِنْ تَعَارَفُوا ذَلِكَ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِي أَحَدِهِمَا) وَقولهُ (إلَّا أَنَّهُ إلَى آخِرِهِ) اسْتِثْنَاءٌ عَلَى قولهِمَا مِنْ قولهِ فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا: أَيْ يَلْزَمُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْكَيْلِ أَبَدًا فَهُوَ بِعُمُومِهِ يَمْنَعُ السَّلَمَ فِي الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا وَزْنًا فَاسْتَثْنَاهُ وَقَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَحَّحَ فِيهِ كَوْنُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مَعْلُومًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا فِيهِ نِزَاعٌ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْوَزْنِ، بِخِلَافِ بَيْعِهَا بِجِنْسِهَا فَإِنَّ الْمُصَحَّحَ هُنَاكَ التَّمَاثُلُ بِالْمُسَوَّى الشَّرْعِيِّ الْمُعَيَّنِ، فَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُسَوَّى اُلْتُحِقَ بِالْجُزَافِ فَلَا يَجُوزُ، وَهَذَا مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَكِيلٌ بِالنَّصِّ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ.
وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ وَقَدْ عَرَفْت الْفَرْقَ.
وَقولهُ فِي الْكَافِي: الْفَتْوَى عَلَى عَادَةِ النَّاسِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَادُوا أَنْ يُسَلِّمُوا فِيهَا كَيْلًا فَأَسْلَمَ وَزْنًا لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، بَلْ إذَا اتَّفَقَا عَلَى مُعَرَّفٍ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
وَفِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ رُوِيَ عَنْهُمَا جَوَازُ السَّلَمِ وَزْنًا فِي الْمَكِيلَاتِ وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَوْزُونَاتِ كَيْلًا أَنَّهُ يَجُوزُ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَيْلِيِّ نَصًّا وَالْوَزْنِيِّ عَادَةً وَقَلَبَهُ، فَأَمَّا الْوَزْنُ نَصًّا وَعَادَةً كَمَا فِي إنَاءَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حَدِيدٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَحَدُهُمَا أَكْثَرُ وَزْنًا مِنْ الْآخَرِ؛ فَفِي الْإِنَاءَيْنِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنْ لَا يُبَاعَا وَزْنًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ، وَفِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ.
فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهِمَا رِبَا الْفَضْلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَاعُ وَزْنًا فِي الْعَادَةِ فَإِنَّ الْوَزْنَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ لِلصَّنْعَةِ بِالْعَادَةِ، وَأَمَّا فِي الْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ فَالْوَزْنُ فِيهِ ثَابِتٌ بِالْعُرْفِ فَيَخْرُجَ بِالصَّنْعَةِ أَيْضًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْزُونًا بِالْعُرْفِ.
قولهُ: (وَكُلُّ مَا يُنْسَبُ إلَى الرِّطْلِ فَهُوَ وَزْنِيٌّ) هَذَا فِي التَّحْقِيقِ تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ أَلْفَاظٍ رُبَّمَا يُنْسَبُ إلَيْهَا الْمَبِيعُ بِلَفْظٍ يُقَدَّرُ وَلَمْ يَشْتَهِرْ فِيهَا أَنَّهَا اسْمٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَزْنِ كَمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمَنِّ وَالْقِنْطَارِ أَوْ إلَى الْكَيْلِ كَمَا فِي الصَّاعِ وَالْمُدِّ فَلَا يَدْرِي أَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْ قَبِيلِ الْوَزْنِ فَيَجْرِيَ حُكْمُ الْوَزْنِ عَلَى الْمَبِيعِ أَوْ الْمَكِيلِ فَيَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْكَيْلِيِّ وَذَلِكَ كَاسْمِ الرَّطْلِ وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالْأُوقِيَّةِ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمَنْسُوبَ إلَيْهَا مِنْ الْمَبِيعَاتِ وَزْنِيٌّ فَيَجْرِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَوْ بِيعَ مَا يُنْسَبُ إلَى الرِّطْلِ وَالْأُوقِيَّةِ كَيْلًا بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيَيْنِ يُعْرَفُ قَدْرُهُمَا كَيْلًا وَلَا يُعْرَفُ وَزْنُ مَا يُحِلُّهُمَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْوَزْنِ فَيَكُونَ بَيْعَ الْجُزَافِ.
وَلَوْ تَبَايَعَا كَيْلًا مُتَفَاضِلًا وَهُمَا مُتَسَاوِيَا الْوَزْنِ صَحَّ، وَلَيْسَ قولنَا لِاحْتِمَالِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا وَزْنًا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ تَسَاوِيهِمَا وَزْنًا يَجُوزُ، فَإِنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ أَمْوَالَ الرِّبَا لَوْ بِيعَتْ مُجَازَفَةً ثُمَّ ظَهَرَ تَسَاوِيهِمَا لَا يَجُوزُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقول الشَّافِعِيِّ كَقولنَا، بَلْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا يَجِبُ نِسْبَتُهُمَا إلَيْهِ مِنْ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَانَ جَائِزًا.
ثُمَّ الرَّطْلُ وَالْأُوقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عُرْفُ الْأَمْصَارِ، وَيَخْتَلِفُ فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ أَمْرُ الْمَبِيعَاتِ، فَالرَّطْلُ الْآنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَزْنُ ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا بِوَزْنِ كُلِّ عَشْرَةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَفِي مِصْرَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَفِي الشَّامِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ، وَفِي حَلَبٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ الرَّطْلَ بِأَنَّهُ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ تَفْسِيرٌ لِلرَّطْلِ الْعِرَاقِيِّ الَّذِي قَدَّرَ بِهِ الْفُقَهَاءُ كَيْلَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة الرَّطْلُ الْمَذْكُورُ لِغَيْرِ الْكَتَّانِ، وَرَطْلُ الْكَتَّانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ، وَكُلُّ رَطْلٍ فِي عُرْفِ دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَأَقْطَارِهِ اثْنَا عَشَرَ أُوقِيَّةً، وَرُبَّمَا كَانَ فِي غَيْرِهَا عِشْرِينَ أُوقِيَّةً، وَحِينَئِذٍ لَا يُشْكِلُ اخْتِلَافُ كَمِّيَّةِ الْأُوقِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الرَّطْلِ.
وَفِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ الْأُوقِيَّةُ مَثَلًا اثْنَا عَشَرَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي نَحْوِ الْمِسْكِ وَالزَّعْفَرَانِ عَشَرَةٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَعَ أَسْمَاءٍ أُخَرَ تَوْقِيفِيَّةٍ مِنْ جِهَةِ الِاصْطِلَاحِ تُعْرَفُ بِالِاسْتِكْشَافِ وَالسُّؤَالِ عَنْهَا فَيُعْرَفُ الْحَالُ.
وَقولهُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ وَزْنُهُ إلَى آخِرِهِ عُرِفَ تَقْرِيرُهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ» مَعْنَاهُ يَدًا بِيَدٍ، وَسَنُبَيِّنُ الْفِقْهَ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: (وَمَا سِوَاهُ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ).
لَهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ «يَدًا بِيَدٍ» وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ فَيَتَعَاقَبُ الْقَبْضُ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الرِّبَا.
وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ كَالثَّوْبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَيَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لِيَتَعَيَّنَ بِهِ؛ وَمَعْنَى قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «يَدًا بِيَدٍ» عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَكَذَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَعَاقُبُ الْقَبْضِ لَا يُعْتَبَرُ تَفَاوُتًا فِي الْمَالِ عُرْفًا، بِخِلَافِ النَّقْدِ وَالْمُؤَجَّلِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَعَقْدُ الصَّرْفِ مَا وَقَعَ عَلَى جِنْسِ الْأَثْمَانِ) ذَهَبًا وَفِضَّةً بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ بِجِنْسِهِ اُشْتُرِطَ فِيهِ التَّسَاوِي وَالتَّقَابُضِ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْأَبَدَانِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ حَتَّى لَوْ عَقَدَا عَقْدَ الصَّرْفِ وَمَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ تَقَابَضَا وَافْتَرَقَا صَحَّ وَأَنْ لَا يَكُونَ بِهِ خِيَارٌ، وَكَذَا السَّلَمُ وَلَا أَجَلَ كَذَا ذُكِرَ، وَهُوَ مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ التَّقَابُضِ يُفِيدُهُ.
وَلَوْ أُسْقِطَ الْخِيَارُ وَالْأَجَلُ فِي الْمَجْلِسِ عَادَ صَحِيحًا خِلَافًا لِزُفَرَ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ اُشْتُرِطَ مَا سِوَى التَّسَاوِي.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَرَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا» إلَى آخِرِهِ، وَهَاءَ مَمْدُودٌ مِنْ هَاءٍ وَأَلِفٍ وَهَمْزَةٍ بِوَزْنِ هَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ خُذْ وَهَاتِ: يَعْنِي هُوَ رِبًا إلَّا فِيمَا يَقول كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ خُذْ، وَمِنْه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ قَالَ: (وَمَا سِوَاهُ) أَيْ مَا سِوَى عَقْدِ الصَّرْفِ (مِمَّا فِيهِ الرِّبَا) مِنْ بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا، أَوْ بِخِلَافِ الْجِنْسِ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّعْيِينُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّقَابُضُ، فَلَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ تَعْيِينِ الْبَدَلَيْنِ عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ جَازَ عِنْدَنَا (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ) أَيْ كُلُّ مَطْعُومٍ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ لَحْمٍ أَوْ فَاكِهَةٍ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «يَدًا بِيَدٍ» وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ التَّعَاقُبُ فِي الْقَبْضِ وَلِلنَّقْدِ مَزِيَّةٌ فَيَكُونُ كَالْمُؤَجَّلِ إذْ يَحْصُلُ التَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلَيْنِ.
(وَلَنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ مُتَعَيِّنٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي) صِحَّةِ بَيْعِهِ (وَالْقَبْضُ كَالثَّوْبِ) بِالثَّوْبِ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إنَّمَا هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الْقَبْضُ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَحْصُلُ فِيهِ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ مَمْلُوكَةً بِالْعَقْدِ إلَّا بِالْقَبْضِ.
قَالَ: وَمَعْنَى (قولهِ يَدًا بِيَدٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ) وَكَذَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «يَدًا بِيَدٍ» وَلَهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ مُسْلِم: «عَيْنًا بِعَيْنٍ» وَلَفْظُهُ فِي مُسْلِم: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَقولهُ يَقَعُ التَّعَاقُبُ فَيَحْصُلَ التَّفَاوُتُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هَذَا الْقَدْرُ مُهْدَرٌ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً مَا لَمْ يُذْكَرْ الْأَجَلُ.
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِـ: «يَدًا بِيَدٍ» عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِهِ هُنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ التَّعْيِينُ لَا التَّقَابُضُ فَيَكُونُ تَعْمِيمًا لِلْمُشْتَرَكِ أَوْ لِلْحَقِيقَةِ فِي الْمَجَازِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ فَسَّرَ هَاءَ وَهَاءَ بِـ: «يَدًا بِيَدٍ»، وَفَسَّرَ يَدًا بِيَدٍ بِالتَّعْيِينِ لِرِوَايَةِ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَى التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ لَا يَنْفِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ هُنَاكَ إنَّمَا هُوَ عَلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّعْيِينُ هُنَاكَ بِالتَّقَابُضِ يَكُونُ لَا بِغَيْرِهِ، لَمَّا قُلْنَا إنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَانَ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ، لِكَيْ يَنْبَغِيَ أَنْ يُقَالَ حَمْلُ يَدًا بِيَدٍ عَلَى مَعْنَى عَيْنًا بِعَيْنٍ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ قَلْبِهِ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ رِوَايَةَ عَيْنًا بِعَيْنٍ تَفْسِيرٌ لِلْمُحْتَمِلِ، لِأَنَّ يَدًا بِيَدٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَهِيَ تَفْسِيرٍ لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقَبْضَ لَمْ يَبْقَ لِقولهِ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ ضَرُورَةً فَلَزِمَ أَنَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ تَفْسِيرًا لِيَدًا بِيَدٍ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَنْعِ الِاحْتِمَالِ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّقَابُضِ.
وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَيْنًا بِعَيْنٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَبْضَ أَخَصُّ مِنْ التَّعْيِينِ، وَكُلُّ قَبْضٍ يَتَضَمَّنُ تَعْيِينًا وَلَيْسَ كُلُّ تَعْيِينٍ قَبْضًا، وَبَابُ الرِّبَا بَابُ احْتِيَاطٍ فَيَجِبَ أَنْ تُحْمَلَ الْعَيْنِيَّةُ عَلَى الْقَبْضِ، وَيُؤَيِّدُهُ فَهْمُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ اصْطَرَفَ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَخَذَ طَلْحَةُ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنْ الْغَابَةِ وَعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَيْفَ وَمَعْنَى هَاءَ خُذْ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ وَمِنْه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وَقَالَ قَائِلٌ:
تَمْزُجُ لِي مِنْ بُغْضِهَا السِّقَاءَ ** ثُمَّ تَقول مِنْ بَعِيدٍ هَاءَ

وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الصَّرْفِ فِي اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فَدُفِعَ بِأَنَّ الِاسْمَ يُنْبِئُ هُنَاكَ عَنْ صَرْفِ كُلٍّ إلَى الْآخَرِ مَا فِي يَدِهِ، وَالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةُ تُعْطَفُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْفَرْعِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَسْتَقِلُّ بِمَطْلُوبِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ وَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ) لِانْعِدَامِ الْمِعْيَارِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا.
وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَكَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الْعَدِّ إذْ فِي نَقْضِهِ فِي حَقِّ الْعَدِّ فَسَادُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْجَوْزَةِ بِالْجَوْزَتَيْنِ بِخِلَافِ النُّقُودِ لِأَنَّهَا لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لِأَنَّهُ كَالِئٌ بِالْكَالِئِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضَةِ بِالْبَيْضَتَيْنِ وَالتَّمْرَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ) إلَى آخِرِهِ وَمَبْنَى ذَلِكَ سَبَقَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ يَدًا بِيَدٍ، أَوْ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
صُورَتُهَا فِيهِ: مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَجَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ وَفَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ وَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ يَدًا بِيَدٍ جَازَ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ كِلَاهُمَا وَلَا أَحَدُهُمَا دَيْنًا.
وَصُوَرُهُ أَرْبَعٌ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا لِاصْطِلَاحٍ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا فَيَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلًا خَالِيًا مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.
وَأَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَطَالَبَهُ بِفَلْسٍ آخَرَ.
أَوْ سَلَّمَ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَقَبَضَهُ بِعَيْنِهِ مِنْهُ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ لِاسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ وَيَبْقَى الْفَلْسُ الْآخَرُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ.
وَكَذَا لَوْ بَاعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ وَدَفَعَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْآخَرُ فَضْلًا بِلَا عِوَضٍ اسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ إنْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.
وَالرَّابِعُ أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا فَيَجُوزَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْفَلْسَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مَا دَامَ رَائِجًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدِ.
وَجْهُ قول مُحَمَّدٍ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَا بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا وَكَبَيْعِ الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ.
وَلَهُمَا أَنَّ ثَمَنِيَّتَهَا فِي حَقِّهِمَا ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِهِمَا إذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِمَا فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَطَلَتْ الثَّمَنِيَّةُ تَعَيَّنَتْ بِالتَّعْيِينِ لِصَيْرُورَتِهَا عُرُوضًا.
اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْفُلُوسَ إذَا كَسَدَتْ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ لَا تَكُونُ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَصِيرَ عُرُوضًا بِاصْطِلَاحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ اتِّفَاقِ مَنْ سِوَاهُمَا عَلَى ثَمَنِيَّتِهَا.
أُجِيبُ بِأَنَّ الْفُلُوسَ فِي الْأَصْلِ عُرُوضٌ، فَاصْطِلَاحُهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةِ بَعْدَ الْكَسَادِ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِهِمَا لِوُقُوعِ اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَخِلَافِ النَّاسِ.
وَأَمَّا إذَا اصْطَلَحَا عَلَى كَوْنِهَا عُرُوضًا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ فَيَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَنْ سِوَاهُمَا عَلَى الثَّمَنِيَّةِ.
وَقولهُ وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا وَإِنْ صَارَ عُرُوضًا، جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بَيْعُ قِطْعَةِ نُحَاسٍ بِقِطْعَتَيْنِ بِغَيْرِ وَزْنٍ.
فَأَجَابَ بِأَنَّ الِاصْطِلَاحَ كَانَ عَلَى أَمْرَيْنِ: الثَّمَنِيَّةِ وَالْعَدَدِيَّةِ، وَاصْطِلَاحُهُمَا عَلَى إهْدَارِ ثَمَنِيَّتِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ إهْدَارَ الْعَدَدِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ عَدَمِ الثَّمَنِيَّةِ وَعَدَمِ الْعَدَدِيَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ الثَّمَنِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْعَدَدِيَّةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْعَدَدِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الثَّمَنِيَّةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لِأَنَّ النُّقُودَ لِلثَّمَنِيَّةِ خِلْقَةٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا لِأَنَّهُ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ قولهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ لَوْ كَانَ كَوْنُ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَسْتَلْزِمُ النَّسِيئَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ بِالنُّقُودِ بَيْعٌ بِمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ حَالًّا فَكَوْنُهُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَيْسَ مَعْنَاهُ نَسِيئَةً، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ، وَالْكَالِئُ بِالْكَالِئِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ النَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ.
وَفِي الْفَائِقِ: كَلَأُ الدَّيْنُ بِالرَّفْعِ كَلَأً فَهُوَ كَالِئٌ إذَا تَأَخَّرَ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَيْنُهُ كَالْكَالِئِ الضِّمَارِ

يَهْجُو رَجُلًا يُرِيدُ بِعَيْنِهِ عَطِيَّتَهُ الْحَاضِرَةَ كَالْمُتَأَخِّرِ الَّذِي لَا يُرْجَى، وَمِنْهُ كَلَأَ اللَّهُ بِك أَكْلَأَ الْعُمُرَ: أَيْ أَكْثَرَهُ تَأْخِيرًا، وَتَكَلَّأْتُ كَلَأً: أَيْ اسْتَنْسَأْتُ نَسِيئَةً.
وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مَسَانِيدِهِمْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاعَ كَالِئٌ بِكَالِئٍ» وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِمُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ فَقِيلَ لَهُ إنَّ شُعْبَةَ يَرْوِي عَنْهُ، فَقَالَ: لَوْ رَأَى شُعْبَةُ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَضُعِّفَ بِالْأَسْلَمِيِّ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ مُوسَى بْنِ عُتْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَغَلَّطَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الزُّبَيْدِيُّ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَعَنْ كَالِئٍ بِكَالِئٍ.
وَالْحَدِيثُ لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحُسْنِ بِلَا شَكٍّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَلَا بِالسَّوِيقِ) لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ وَالْمِعْيَارُ فِيهِمَا الْكَيْلُ، لَكِنَّ الْكَيْلَ غَيْرُ مُسَوٍّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحِنْطَةِ لِاكْتِنَازِهِمَا فِيهِ وَتَخَلْخُلِ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ كَيْلًا بِكَيْلٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ) أَيْ دَقِيقِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ (وَلَا بِالسَّوِيقِ) أَيْ سَوِيقِ الْحِنْطَةِ.
أَمَّا سَوِيقُ الشَّعِيرِ فَيَجُوزُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يَسْتَلْزِمُ شُبْهَةُ التَّفَاضُلِ، وَحَقِيقَتُهُ جَائِزَةٌ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَضْلًا عَنْ شُبْهَتِهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا وَإِنْ انْتَفَتْ اسْمًا وَصُورَةً وَمَعْنًى مَوْجُودَةٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحِنْطَةِ مِنْ نَحْوِ الْهَرِيسَةِ وَالْمَقْلُوَّةِ وَإِخْرَاجِ النَّشَا مُنْتَفٍ فِي الدَّقِيقِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ أَجْزَاؤُهَا لِأَنَّ مِنْ أَجْزَائِهَا النُّخَالَةَ أَيْضًا فَالْحِنْطَةُ كُسِرَتْ عَلَى أَجْزَاءٍ صِغَارٍ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي الْمُجَانَسَةَ، وَالْمِعْيَارُ فِي كُلٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ الْكَيْلُ، وَالْكَيْلُ لَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ بِعَارِضِ ذَلِكَ التَّكْسِيرِ صَارَتْ أَجْزَاؤُهَا مُكْتَنِزَةً (فِيهِ) أَيْ فِي الْكَيْلِ: أَيْ مُنْضَمَّةً انْضِمَامًا شَدِيدًا، وَالْقَمْحُ فِي الْكَيْلِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا كَيْلًا بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ، فَصَارَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَيْلًا كَبَيْعِ الْجُزَافِ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا إنَّمَا كَانَتْ مُنْتَهِيَةً بِالْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ إلَّا فِيمَا لَا اعْتِبَارَ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَتَّفِقَ كَبْسٌ فِي كَيْلِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَتَّفِقْ قَدْرُهُ سَوَاءً فِي الْأُخْرَى، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعِلْمُ بِهَا صَارَتْ مُنْتَفِيَةً بِالضَّرُورَةِ (فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ كَيْلًا بِكَيْلٍ) مُسَاوٍ، وَقولنَا قول الشَّافِعِيِّ فِي الْأَظْهَرِ عَنْهُ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ قوليْهِ، لِأَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ فُرِّقَتْ أَجْزَاؤُهَا فَأَشْبَهَ بَيْعَ حِنْطَةٍ صَغِيرَةٍ جِدًّا بِكَبِيرَةٍ جِدًّا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُرُوضِ الْجَهْلِ بِالْمُسَاوَاةِ بِعُرُوضِ الطَّحْنِ يَدْفَعُهُ.
وَبَيْعُ النُّخَالَةِ بِالدَّقِيقِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَازَهُ لِأَنَّ النُّخَالَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا لِأَنَّهَا لَا تُطْعَمُ.
وَقولنَا الْمِعْيَارُ فِي الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ الْكَيْلُ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا فِيمَا إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، أَمَّا بِالدَّرَاهِمِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ وَزْنًا بِالدَّرَاهِمِ وَكَذَا الدَّقِيقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.

متن الهداية:
(وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا) لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَسَاوِيًا كَيْلًا) وَهُوَ قول أَحْمَدَ، وَكَذَا اسْتِقْرَاضُهُ كَيْلًا وَالسَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا، وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَدِلُ فِي الْكَيْلِ لِأَنَّهُ يَنْكَبِسُ بِالْكَبْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ كَوْنَهُ لَا يُعْلَمُ بَلْ يُعْلَمُ، وَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّفَاوُتِ بِالْكَبْسِ يُتَوَهَّمُ مِثْلُهُ فِي كَيْلِ الْقَمْحِ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْإِمَامِ الْفَضْلِيِّ: إنَّمَا يَجُوزُ إذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا إذَا كَانَا مَكْبُوسَيْنِ وَهُوَ حَسَنٌ، وَلَفْظُ مُتَسَاوِيًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَنُصِبَ كَيْلًا عَلَى التَّمْيِيزِ وَهُوَ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ مِثْلَ تَصَبَّبَ عَرَقًا وَالْأَصْلُ مُتَسَاوِيًا كَيْلُهُ.
وَفِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا رِوَايَتَانِ، وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ رِوَايَةِ الْمَنْعِ فَقَالَ فِي جِنْسٍ آخَرَ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَكَذَا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَزْنًا لَا يَجُوزُ وَفِيهَا أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الدَّقِيقَيْنِ أَخْشَنَ أَوْ أَدَقَّ، وَكَذَا بَيْعُ النُّخَالَةِ بِالنُّخَالَةِ.
وَفِي شَرْحِ أَبِي نَصْرٍ: يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ إذَا كَانَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ النُّعُومَةِ.
وَاَلَّذِي فِي الْخُلَاصَةِ أَحْسَنُ لِإِهْدَارِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ زِيَادَةِ النُّعُومَةِ، وَبَيْعُ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ لَا يَجُوزُ إلَّا.
مُمَاثِلًا، وَبَيْعُ النُّخَالَةِ بِالدَّقِيقِ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِأَنْ كَانَتْ النُّخَالَةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ مِنْ النُّخَالَةِ الَّتِي فِي الدَّقِيقِ.

متن الهداية:
(وَبَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَفَاضِلًا، وَلَا مُتَسَاوِيًا) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْمَقْلِيَّةِ وَلَا بَيْعُ السَّوِيقِ بِالْحِنْطَةِ، فَكَذَا بَيْعُ أَجْزَائِهِمَا لِقِيَامِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ وَجْهٍ.
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ.
قُلْنَا: مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّغَذِّي يَشْمَلُهُمَا فَلَا يُبَالَى بِفَوَاتِ الْبَعْضِ كَالْمَقْلِيَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالْعِلْكَةِ بِالْمُسَوِّسَةِ.
الشَّرْحُ:
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَبَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ) أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دَقِيقِ نَوْعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ بِسَوِيقِ ذَلِكَ النَّوْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُتَفَاضِلًا وَلَا مُتَسَاوِيًا، أَمَّا دَقِيقُ الْحِنْطَةِ بِسَوِيقِ الشَّعِيرِ وَعَكْسُهُ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ (وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا (لِأَنَّهُمَا) أَيْ دَقِيقَ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقَهَا مَثَلًا (جِنْسَانِ) وَإِنْ رَجَعَا إلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ (لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ) اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَعْدَ الْقَلْيِ وَالطَّحْنِ فَإِنَّ الْمَقَاصِدَ مِنْ الدَّقِيقِ مِثْلُ أَنْ يُصْنَعَ خُبْزًا أَوْ عَصِيدًا أَوْ طَرِيَّةً وَهُوَ شَبَهُ الرَّشْتَةِ لَا يَتَأَتَّى مِنْ السَّوِيقِ، كَمَا أَنَّ مَا يُقْصَدُ بِالسَّوِيقِ وَهُوَ أَنْ يُذَابَ مَعَ عَسَلٍ وَيُشْرَبَ أَوْ يُلَتَّ بِسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَيُؤْكَلَ لَا يَتَأَتَّى مِنْ الدَّقِيقِ، وَإِذَا كَانَا جِنْسَيْنِ جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَلَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِالْحِنْطَةِ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لَيْسَ إلَّا لِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّسَاوِي مَعَ مُسَاوَاةِ الْكَيْلِ لِاكْتِنَازِ أَحَدِهِمَا فِيهِ دُونَ الْآخَرِ، وَالدَّقِيقُ أَجْزَاءُ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ وَالسَّوِيقُ أَجْزَاءُ الْمَقْلِيَّةِ، وَلَمْ يَزِدْ الدَّقِيقُ عَلَى الْحِنْطَةِ إلَّا بِتَكْسِيرِهِ بِالطَّحْنِ، وَكَذَا الْآخَرُ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بَعْدَ اتِّحَادِهِ.
وَالثَّانِي وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ غَيْرُ الْمَقْلِيَّةِ بِالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِالدَّقِيقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِاسْتِلْزَامِهِ رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا الْفَضْلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَعَ الْمُجَانَسَةِ فَكَانَتْ الْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةً بَيْنَ السَّوِيقِ وَالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقُ أَجْزَاءُ الْحِنْطَةِ فَتَثْبُتَ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ ثُمَّ يَمْتَنِعُ الْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ فَيَمْتَنِعُ الْبَيْعُ مُطْلَقًا.
قولهُمْ اخْتَلَفَتْ الْمَقَاصِدُ وَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْجِنْسِ (قُلْنَا أَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ) هِيَ مُتَّحِدَةٌ فِيهِ (وَهُوَ التَّغَذِّي فَلَا يُبَالَى بِفَوَاتِ بَعْضِهَا) الَّذِي هُوَ دُونَ الْمَقْصِدِ الْأَعْظَمِ بِدَلِيلِ الْحُكْمِ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ حَتَّى امْتَنَعَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بِسَبَبِ اتِّحَادِهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ مَعَ فَوَاتِ مَا دُونَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ، فَإِنَّ الْمَقْلِيَّةَ لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ وَلَا لِلْهَرِيسَةِ وَلَا تُطْحَنُ فَيُتَّخَذَ مِنْهَا خُبْزٌ (وَ) كَذَا (الْعِلْكَةُ) أَيْ الْجَيِّدَةُ السَّالِمَةُ مِنْ السُّوسِ (مَعَ الْمُسَوِّسَةِ) وَمَعَ ذَلِكَ جُعِلَا جِنْسًا وَاحِدًا غَيْرَ أَنَّ الْمُسَوَّسَةَ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْعِلْكَةِ كَيْلًا مُتَسَاوِيًا، وَالْمَقْلِيَّةُ مَعَ غَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْكَيْلَ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِالْمَقْلِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا.
قِيلَ يَجُوزُ إذَا تَسَاوَيَا وَزْنًا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَة.
وَقِيلَ لَا وَعَلَيْهِ عَوَّلَ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّارَ قَدْ تَأْخُذُ فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَمُسَوِّسَةٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ كَأَنَّهَا هِيَ سَوَّسَتْ: أَيْ أَدْخَلَتْ السُّوسَ فِيهَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا بَاعَهُ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ لِيَكُونَ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ مَا فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّقْطِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ السَّقْطِ أَوْ مِنْ حَيْثُ زِيَادَةُ اللَّحْمِ فَصَارَ كَالْخَلِّ بِالسِّمْسِمِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ثِقَلِهِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ مَرَّةً بِصَلَابَتِهِ وَيَثْقُلُ أُخْرَى، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي الْحَالِ يُعَرِّفُ قَدْرَ الدُّهْنِ إذَا مِيزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّجِيرِ، وَيُوزَنُ الثَّجِيرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَنْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) سَوَاءً كَانَ اللَّحْمُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ أَوْ لَا مُسَاوِيًا لِمَا فِي الْحَيَوَانِ أَوْ لَا بِشَرْطِ التَّعْيِينِ، أَمَّا بِالنَّسِيئَةِ فَلَا لِامْتِنَاعِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَاللَّحْمِ.
وَفَصَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ: إنْ بَاعَهُ بِلَحْمٍ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْبَقَرَةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ.
وَلَحْمِ الْجَزُورِ بِالْبَقَرَةِ الْحَيَّةِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَلَحْمِ شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةٍ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ لِيَكُونَ لَحْمُ الشَّاةِ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ مِنْ اللَّحْمِ، وَبَاقِي اللَّحْمِ (بِمُقَابَلَةِ السَّقْطِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الرِّبَا) إمَّا لِزِيَادَةِ السَّقْطِ إنْ كَانَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ مِثْلَ مَا فِي الْحَيَوَانِ مِنْ اللَّحْمِ، أَوْ لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ إنْ كَانَ اللَّحْمُ أَقَلَّ مِمَّا فِي الشَّاةِ فَصَارَ كَبَيْعِ الْحِلِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ دُهْنُ السِّمْسِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّقْطِ مَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّحْمِ كَالْكَرِشِ وَالْمِعْلَاقِ وَالْجِلْدِ وَالْأَكَارِعِ؛ وَلَوْ كَانَتْ الشَّاةُ مَذْبُوحَةً مَسْلُوخَةً جَازَ إذَا تَسَاوَيَا وَزْنًا بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْلُوخَةِ الْمَفْصُولَةُ مِنْ السَّقْطِ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَقْطِهَا لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الِاعْتِبَارِ.
وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً بِشَاةٍ حَيَّةٍ يَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهَا بِاللَّحْمِ جَازَ كَيْفَمَا كَانَ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ، وَأَمَّا عَلَى قول مُحَمَّدٍ فَإِنَّمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَحْمٌ بِلَحْمٍ وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ فِي إحْدَاهُمَا مَعَ سَقْطِهَا بِإِزَاءِ السَّقْطِ، وَعَلَى هَذَا شَاتَانِ مَذْبُوحَتَانِ غَيْرُ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَمْ تُسْلَخْ يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّحْمَ بِمِثْلِهِ وَزِيَادَةُ لَحْمِ الشَّاةِ بِإِزَاءِ الْجِلْدِ وَنَحْوِهِ، فَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ الْمَسْلُوخَةِ وَغَيْرِهَا بِاعْتِبَارِ الْجِلْدِ وَعَدَمِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ أَصْلًا لَا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَلَا بِغَيْرِهِ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ كَقول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ بَاعَهُ بِلَحْمٍ غَيْرِ جِنْسِهِ كَلَحْمِ الْبَقَرَةِ بِشَاةٍ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ يَجُوزُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قولانِ وَالْأَصَحُّ لَا يَصِحُّ لِعُمُومِ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ.
وَجْهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْإِطْلَاقِ (أَنَّهُ بَاعَ مَوْزُونًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْزُونٍ) فَغَايَتُهُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ كَالْعَصِيرِ مَعَ الْعِنَبِ وَاللَّبَنِ مَعَ السَّمْنِ، لَكِنَّ اتِّحَادَهُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُقَدَّرِ بِهِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ بِهِ النَّسَاءُ فَقُلْنَا بِشَرْطِ التَّعْيِينِ وَلَا يَجُوزُ النَّسَاءُ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمَوْزُونٍ (لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً) فَلَيْسَ فِيهِ أَحَدُ الْمُقَدَّرَيْنِ الشَّرْعِيَّيْنِ الْوَزْنُ أَوْ الْكَيْلُ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُعْرَفُ قَدْرُ ثِقَلِهِ بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ يُثَقِّلُ نَفْسَهُ وَيُخَفِّفُهَا فَلَا يُدْرَى حَالُهُ، بِخِلَافِ الدُّهْنِ وَالسِّمْسِمِ (لِأَنَّ الْوَزْنَ يُعَرِّفُ قَدْرَ الدُّهْنِ إذَا مِيزَ مِنْ الثَّجِيرِ) ثُمَّ يُوزَنُ الثَّجِيرُ هَذَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَإِلَّا فَهُمَا عَلَى مَا قَالَ غَيْرُ الْمُصَنِّفِ يَعْتَبِرَانِ لَحْمَ الشَّاةِ مَعَ الشَّاةِ الْحَيَّةِ جِنْسَيْنِ أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أَيْ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَيَّ مَعَ الْجَمَادِ جِنْسَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ النَّسَاءُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ سَلَمٌ وَهُوَ لَا يَجُوزُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمْعَ ظَاهِرٌ فِي مَنْعِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَمِنْهُ ضَعِيفٌ وَقَوِيٌّ، فَمِنْ الْقَوِيِّ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَأَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ». وَفِي لَفْظٍ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيِّ بِالْمَيِّتِ». وَمُرْسَلُ سَعِيدٍ مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ السُّلَمِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ نَحْوَهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَمَنْ أَثْبَتَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ عَدَّهُ مَوْصُولًا وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ جَيِّدٌ.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْسَلَ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مُطْلَقًا.
وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ إلَى رَجُلٍ مَجْهُولٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «نَهَى عَنْ أَنْ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَيِّتٍ»، وَأَسْنَدَ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ»، وَبِسَنَدِهِ إلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ تَابِعُونَ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَلَّهُ بِالْمَعْنَى، فَإِنَّ مَشَايِخَنَا ذَكَرُوهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ جَزُورًا نُحِرَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِعِنَاقِهِ فَقَالَ: أَعْطُونِي بِهَذَا الْعِنَاقِ لَحْمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصِحُّ هَذَا» وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ نُحِرَ لِيُتَصَدَّقَ بِهِ قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ «لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ أَوَ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقِيلَ نَعَمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا إذًا» وَلَهُ أَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ «لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أُهْدَى إلَيْهِ رُطَبٌ أَوَ كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» سَمَّاهُ تَمْرًا.
وَبَيْعُ التَّمْرِ بِمِثْلِهِ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْبَيْعُ بِأَوَّلِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ تَمْرٍ فَبِآخِرِهِ، وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ وَمَدَارُ مَا رَوَيَاهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ، فَقَدْ تَفَرَّدَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْقول بِالْجَوَازِ.
وَأَمَّا الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا كَيْلًا مُتَمَاثِلًا، لِلْجَمَاعَةِ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْبَيْضَاءِ بِالسُّلْتِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ قَالَ الْبَيْضَاءُ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ شِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ؟ قَالَ نَعَمْ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ» فَهَذَا حُكْمٌ مُنَبَّهٌ فِيهِ عَلَى عِلَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ يَنْقُصُ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي ثَانِي الْحَالِ عَنْ الْمُسَاوَاةِ. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «حِينَ أُهْدَى لَهُ رُطَبٌ أَوَ كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» فَسَمَّاهُ) أَيْ سَمَّى الرُّطَبَ (تَمْرًا) وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الْمُهْدَى رُطَبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ تَمْرًا.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلُوا وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا» وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ.
وَلَفْظٌ آخَرُ «إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْجَمْعُ أَصْنَافٌ مَجْمُوعَةٌ مِنْ التَّمْرِ.
وَمَا ادَّعَاهُ بَعْضُ الْخِلَافِيِّينَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا أَنَّهُ يَحْنَثُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ تَمْرًا) هَذَا اللَّفْظُ يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ دَخَلَ بَغْدَادَ وَكَانُوا أَشِدَّاءَ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ التَّمْرِ فَقَالَ: الرُّطَبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ تَمْرًا جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ دَائِرٌ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَزَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ.
وَأَبْدَلَهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ (ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقْلَةِ) وَغَلَّطَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ الْمُصَنِّفَ فِي قولهِ زَيْدَ بْنَ عَيَّاشٍ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ.
وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدِّينِ مُغَلْطَاي.
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ الْمَخْرَجُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: زَيْدُ بْنُ عَيَّاشٍ أَبُو عَيَّاشٍ الدَّوْرَقِيُّ، وَيُقَالُ الْمَخْزُومِيُّ، وَيُقَالُ مَوْلَى بَنِي زُهْرَةَ الْمَدَنِيُّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
وَغَيْرُ مَشَايِخِنَا ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ هُوَ مَجْهُولٌ، وَقَدْ رَدَّ تَرْدِيدَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ تَمْرًا أَوْ لَا بِأَنَّ هُنَا قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ الْجِنْسِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْآخَرِ كَالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لِعَدَمِ تَسْوِيَةِ الْكَيْلِ بَيْنَهُمَا، فَكَذَا الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ لَا يُسَوِّيهِمَا الْكَيْلُ، وَإِنَّمَا يَسْوَى فِي حَالِ اعْتِدَالِ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَجِفَّ الْآخَرُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ وَيَعْتَبِرُ التَّسَاوِي حَالَ الْعَقْدِ، وَعُرُوضِ النَّقْصِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَعَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحَالِ إذَا كَانَ مُوجِبُهُ أَمْرًا خِلْقِيًّا وَهُوَ زِيَادَةُ الرُّطُوبَةِ، بِخِلَافِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِهَا فَإِنَّا فِي الْحَالِ نَحْكُمُ بِعَدَمِ التَّسَاوِي لِاكْتِنَازِ أَحَدِهِمَا فِي الْكَيْلِ، بِخِلَافِ الْآخَرِ لِتَخَلْخُلِ كَثِيرٍ وَرَدَّ طَعْنَهُ فِي أَبِي عَيَّاشٍ أَيْضًا بِأَنَّهُ ثِقَةٌ كَمَا نَقَلْنَا آنِفًا مِنْ قول صَاحِبِ التَّنْقِيحِ، وَأَيْضًا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَهُوَ لَا يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: كَيْفَ يَكُونُ مَجْهُولًا وَقَدْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ ثِقَتَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ وَعِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَهُمَا مِمَّنْ احْتَجَّ بِهِمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ عَرَفَهُ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَعَ شِدَّةِ تَحَرِّيهِ فِي الرِّجَالِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: زَيْدٌ أَبُو عَيَّاشٍ مَجْهُولٌ، فَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَعْرِفْهُ فَقَدْ عَرَفَهُ أَئِمَّةُ النَّقْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ السَّنَدِ فَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْهُ نَسِيئَةً، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ هَذَا زِيَادَةُ «نَسِيئَةً»، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقول: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ نَسِيئَةً» وَبِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَسَكَتَ عَنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: اجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهِمْ لِلْحَدِيثِ يُرِيدُ بِالْأَرْبَعَةِ مَالِكًا وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ وَالضَّحَّاكَ بْنَ عُثْمَانَ وَآخَرَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بَعْدَ صِحَّةِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ يَجِبُ قَبُولُهَا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَبُولُ الزِّيَادَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ لَمْ يُورِدْهَا إلَّا فِي زِيَادَةٍ تَفَرَّدَ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ الْحَاضِرِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُمْ لَا يَغْفُلُ عَنْ مِثْلِهَا فَإِنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي تَحْرِيرِ الْأُصُولِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ زِيَادَةٌ لِمَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ فَسَمِعَ هَذَا مَا لَمْ يَسْمَعْ الْمُشَارِكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ بِالسَّمَاعِ، فَمَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الْحَالَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ ذَكَرَ فِي بَعْضِهَا مَا تَرَكَهُ فِي آخَرَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
لَكِنْ يَبْقَى قولهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ» عَرِيًّا عَنْ الْفَائِدَةِ إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ نَسِيئَةً.
وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ فَائِدَتَهُ أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إلَى أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ بِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ عِنْدَ الْجَفَافِ فَمَنْعُهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِشْفَاقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ كَانَ وَلِيَّ يَتِيمٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ) يَعْنِي عَلَى الْخِلَافِ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ.
وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَالرُّطَبُ بِالرُّطَبِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ أَوْ الْمَبْلُولَةِ بِمِثْلِهَا أَوْ بِالْيَابِسَةِ، أَوْ التَّمْرُ أَوْ الزَّبِيبُ الْمُنْقَعُ بِالْمُنْقَعِ مِنْهُمَا مُتَمَاثِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ جَمِيعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْمَالُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ لَهُمَا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ وَبَيْنَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا يَظْهَرُ مَعَ بَقَاءِ الْبَدَلَيْنِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَفِي الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ بَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونَ تَفَاوُتًا فِي عَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ التَّفَاوُتُ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الِاسْمِ فَلَمْ يَكُنْ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكَذَا الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ: يَعْنِي عَلَى الْخِلَافِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ مَعَ التَّسَاوِي كَيْلًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ.
وَقولهُ (وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ) لَهُمَا يَعْنِي فِي مَنْعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ» بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّبِيبَ إمَّا مِنْ جِنْسِ الْعِنَبِ فَيَجُوزَ مُتَسَاوِيًا أَوْ لَا فَيَجُوزَ مُطْلَقًا.
وَنَقَلَ الْقُدُورِيُّ فِي التَّقْرِيبِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ قولهُمْ جَمِيعًا.
وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الِاعْتِبَارِ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ (وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْقَلْيَ كَائِنٌ بِصُنْعِ الْعِبَادِ فَتُعْدَمُ اللَّطَافَةُ الَّتِي كَانَتْ الْحِنْطَةُ بِهَا مِثْلِيَّةً، بِخِلَافِ التَّفَاوُتِ الْحَاصِلِ بِأَصْلِ الْحَلْقَةِ كَالرُّطَبِ مَعَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ مَعَ الزَّبِيبِ لَا يُعْتَبَرُ فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، فَصَارَ فِي بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا، يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَلَى الْخِلَافِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْكِتَابِ، يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الِاعْتِبَارِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ مَوْجُودٌ فِي الْعِنَبِ فَصَارَ كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَنْعِ بَيْنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ وَجَوَازِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ وَرَدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ التَّمْرِ عَلَى الرُّطَبِ وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا فِي الزَّبِيبِ فَافْتَرَقَا (وَأَمَّا الرُّطَبُ بِالرُّطَبِ فَيَجُوزُ مُتَمَاثِلًا كَيْلًا) وَكَذَا الْعِنَبُ بِالْعِنَبِ يَجُوزُ (عِنْدَنَا) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُزَنِيُّ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ لَهَا حَالُ جَفَافٍ كَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ وَالْجَوْزِ وَالْكُمَّثْرَى وَالرُّمَّانِ وَالْإِجَّاصِ لَا يُجِيزُ بَيْعَ رُطَبِهِ بِرُطَبِهِ، كَمَا لَا يُجِيزُ بَيْعَ رُطَبِهِ بِيَابِسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُ النُّقْصَانِ إذْ قَدْ يَكُونُ نُقْصَانُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي الْبَاقِلَاءِ الْأَخْضَرِ بِمِثْلِهِ، لِأَنَّ بَيْنَ الْبَاقِلَائِتَيْن فَضَاءً يَتَفَاوَتُ فَيَمْنَعَ تَعْدِيلَ الْكَيْلِ فَكَانَ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْمَبْلُولَةِ وَالرَّطْبَةِ بِالرَّطْبَةِ أَوْ الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ يَجُوزُ، وَكَذَا بَيْعُ التَّمْرِ الْمُنْقَعِ وَالزَّبِيبِ الْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ وَالْيَابِسِ مِنْهُمَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ إلَى هُنَا.
وَالْمُنْقَعُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أُنْقِعَ الزَّبِيبُ فِي الْخَابِيَةِ فَهُوَ مُنْقَعٌ.
وَأَصْلُهُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ فِي أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ الْمَآلُ عِنْدَ الْجَفَافِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْمَبْلُولَةِ وَالرَّطْبَةِ مَعَ مِثْلِهَا أَوْ الْيَابِسَةِ.
أَمَّا مَعَ الْيَابِسَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَبْلُولَةُ مَعَ الْمَبْلُولَةِ فَالتَّفَاوُتُ يَقَعُ فِي قَدْرِ الْبَلَلِ، قَالَ الْحَلْوَانِيُّ: الرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْيَابِسَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ إذَا انْتَفَخَتْ، أَمَّا إذَا بُلَّتْ مِنْ سَاعَتِهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْيَابِسَةِ إذَا تَسَاوَيَا كَيْلًا.
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرَانِ الْمُسَاوَاةَ بِتَأْوِيلِ التَّسَاوِي فِي الْحَالِ (عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) أَيْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَغَيْرِهِ (إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ تَرَكَ هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ) مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَالْحِنْطَةُ الرَّطْبَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الرُّطَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالرُّطُوبَةُ فِي الرُّطَبِ مَقْصُودَةٌ وَفِي الْحِنْطَةِ عَيْبٌ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قول أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قولهُ الْآخَرُ، وَقولهُ الْأَوَّلُ كَقول مُحَمَّدٍ، وَقَدْ نَقَضَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ التَّفَاوُتَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْعِ، وَمَا بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا بِالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ فَإِنَّ الرُّطُوبَةَ الْحَاصِلَة فِيهَا بِصُنْعِ الْعِبَادِ وَبِهَا يَحْصُلُ التَّفَاوُتُ مَعَ أَنَّهُ جَازَ الْعَقْدُ.
أُجِيبُ بِأَنَّ الْحِنْطَةَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ رَطْبَةٌ وَهِيَ مَالُ الرِّبَا إذْ ذَاكَ وَالْبَلُّ بِالْمَاءِ يُعِيدُهَا إلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْخِلْقَةِ فِيهَا فَلَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِ الْقَلْيِ (وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ) مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الرَّطْبَةِ إلَى هُنَا حَيْثُ مَنَعَهُ (وَبَيْنَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ) حَيْثُ أَجَازَهُ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعِنَبِ بِالْعِنَبِ فَإِنَّهُ يُجِيزُهُ، وَحَاصِلُهُ (أَنَّ التَّفَاوُتَ) إنْ ظَهَرَ مَعَ بَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَسَدَ الْعَقْدُ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُمَا لَا يَفْسُدُ، فَفِي الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَعْدَ خُرُوجِ الْبَدَلَيْنِ عَنْ الِاسْمِ الَّذِي عُقِدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، فَإِنَّ الِاسْمَ حِينَئِذٍ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ فَلَا يَكُونُ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَا يَتَغَيَّرُ فَيَظْهَرَ فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعَ.

متن الهداية:
وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ، بِخِلَافِ الْكُفُرَّى حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا شَاءَ مِنْ التَّمْرِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْمَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ لَا قَبْلَهُ، وَالْكُفَرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ، حَتَّى لَوْ بَاعَ التَّمْرَ بِهِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ بَاعَ الْبُسْرَ بِالتَّمْرِ مُتَسَاوِيًا يَجُوزُ (وَمُتَفَاضِلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبُسْرَ تَمْرٌ بِخِلَافِ الْكُفُرَّى) وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَقْصُورًا كُمُّ النَّخْلِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْشَقُّ (حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِمَا شَاءَ مِنْ التَّمْرِ) أَيْ كَيْلًا مِنْ التَّمْرِ بِكَيْلَيْنِ مِنْ الْكُفُرَّى وَقَلْبِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْرٍ (لِأَنَّ) الْكُفُرَّى لَمْ يَنْعَقِدْ بَعْدُ فِي صُورَةِ التَّمْرِ (وَهَذَا الِاسْمُ) أَعْنِي التَّمْرَ لَهُ (مِنْ أَوَّلِ مَا تَنْعَقِدُ صُورَتُهُ لَا قَبْلَهُ) وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَوَرَّدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ رُطَبًا لَا يَحْنَثُ فَكَانَ غَيْرَهُ.
فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ بَلْ يَحْنَثُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ الْمَسْأَلَةُ مَسْطُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ بِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ.
وَكَذَا ادَّعَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا فَأَكَلَ بُسْرًا وَلَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى هَذَا، إذْ يَكْفِيهِ أَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَكَلَامُنَا فِيهِ لُغَةٌ.
وَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُطَالَبُونَ بِتَصْحِيحِ أَنَّ اسْمَ التَّمْرِ يَلْزَمُ الْخَارِجَ مِنْ حِينِ يَنْعَقِدُ إلَى أَنْ يَطِيبَ ثُمَّ يَجِفَّ مِنْ اللُّغَةِ وَلَا يُنْكَرُ صِحَّةُ الْإِطْلَاقِ بِاعْتِبَارِ مَجَازِ الْأَوَّلِ.
وَقولهُ (وَالْكُفَرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ إلَى آخِرِهِ) جَوَابُ سُؤَالٍ هُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْكُفُرَّى تَمْرًا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إسْلَامُ التَّمْرِ فِيهِ وَشِرَاءُ التَّمْرِ بِهِ نَسِيئَةً فَقَالَ: الْكُفُرَّى عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ تَفَاوُتًا غَيْرَ مُهْدِرٍ فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُهُ فِيهِ، وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ نَسِيئَةً لِلْجَهَالَةِ فَتَقَعَ الْمُنَازَعَةُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالسِّمْسِمُ بِالشَّيْرَجِ حَتَّى يَكُونَ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ فَيَكُونَ الدُّهْنُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِالثَّجِيرِ) لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْرَى عَنْ الرِّبَا إذْ مَا فِيهِ مِنْ الدُّهْنِ مَوْزُونٌ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا فِيهِ لَوْ كَانَ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، فَالثَّجِيرُ وَبَعْضُ الدُّهْنِ أَوْ الثَّجِيرُ وَحْدَهُ فَضْلٌ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ مَا فِيهِ لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، وَالشُّبْهَةُ فِيهِ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ، وَالْكِرْبَاسُ بِالْقُطْنِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ بِالْإِجْمَاعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ حَتَّى يَكُونَ الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ مَعْلُومًا أَنَّهُ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ) فَلَوْ جَهِلَ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَقَلُّ أَوْ مُسَاوٍ لَا يَجُوزُ، فَالِاحْتِمَالَات أَرْبَعٌ، وَالْجَوَازُ فِي أَحَدِهَا بِأَنَّهُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُ بِمِثْلِهِ مِنْ الدُّهْنِ الْمُفْرَدِ (وَالزَّائِدُ) مِنْهُ (بِـ) مُقَابَلَةِ (الثَّجِيرِ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ إذَا كَانَ الثِّقَلُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، أَمَّا إذَا كَانَ لَا قِيمَةَ لَهُ كَمَا فِي الزُّبْدِ بَعْدَ إخْرَاجِ السَّمْنِ مِنْهُ فَيَجُوزُ مَعَ مُسَاوَاةِ الْخَارِجِ لِلسَّمْنِ الْمُفْرَدِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ زُفَرُ: يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالصِّحَّةِ فَلَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالشَّكِّ.
وَالْأَصْلُ الصِّحَّةُ.
وَقُلْنَا: الْفَسَادُ غَالِبٌ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرَيْ النُّقْصَانِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَالصِّحَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَكْثَرِيَّةِ فَكَانَ هُوَ الظَّاهِرُ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ هَذَا الْبَيْعُ أَصْلًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُجَانَسَةَ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الضِّمْنِ فَتَمْنَعُ النَّسِيئَةَ كَمَا فِي الْمُجَانَسَةِ الْعَيْنِيَّةِ، وَذَلِكَ كَالزَّيْتِ مَعَ الزَّيْتُونِ وَالشَّيْرَجِ مَعَ السِّمْسِمِ، وَتَنْتَفِي بِاعْتِبَارِ مَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ فَيَخْتَلِفُ الْجِنْسُ مَعَ اتِّحَادِ الْأَصْلِ حَتَّى يَجُوزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ مَعَ دُهْنِ الْوَرْدِ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الزَّيْتُ أَوْ الشَّيْرَجُ فَصَارَا جِنْسَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَا أُضِيفَا إلَيْهِ مِنْ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ وَالْفَرْضِ وَلَمْ يُبَلْ بِاتِّحَادِ الْأَصْلِ وَعَلَى هَذَا دُهْنُ الزَّهْرِ فِي دِيَارِنَا وَدُهْنُ الْبَانِ؛ أَصْلُهُمَا اللَّوْزُ يُطَبَّقُ بِالزَّهْرِ وَبِالْخِلَافِ مُدَّةً ثُمَّ يُعْصَرُ اللَّوْزُ فَيَخْرُجَ مِنْهُ دُهْنٌ مُخْتَلِفُ الرَّائِحَةِ فَيَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِ الدُّهْنَيْنِ بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ ضُمَّ إلَى الْأَصْلِ مَا طَيَّبَهُ دُونَ الْآخَرِ جَازَ مُتَفَاضِلًا حَتَّى أَجَازُوا بَيْعَ قَفِيزِ سِمْسِمٍ مُطَيَّبٍ بِقَفِيزَيْنِ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْلِ لَوْزٍ مُطَبَّقٍ بِرَطْلَيْ لَوْزٍ غَيْرِ مُطَبَّقٍ، وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْلِ دُهْنِ لَوْزٍ مُطَبَّقٍ بِزَهْرِ النَّارِنْجِ بِرَطْلَيْ دُهْنِ اللَّوْزِ الْخَالِصِ، وَكَذَا رَطْلُ زَيْتٍ مُطَيَّبٍ بِرَطْلَيْ زَيْتٍ لَمْ يُطَيَّبْ فَجَعَلُوا الرَّائِحَةَ الَّتِي فِيهَا بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّطْلِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُجِيزُ الدُّهْنَ الْمُطَيَّبَ وَغَيْرَهُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ.
وَأَوْرَدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِدُهْنِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ لِأَنَّ الدُّهْنَ وَزْنِيٌّ وَالسِّمْسِمَ كَيْلِيٌّ.
أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ السِّمْسِمِ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ الدُّهْنِ كَانَ بَيْعُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ مُتَفَاضِلًا صَرْفًا لِكُلٍّ مِنْ دُهْنِهِ وَثَجِيرِهِ إلَى خِلَافِ جِنْسِهِ.
أُجِيبُ بِأَنَّ الصَّرْفَ يَكُونُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ صُورَةً كَمَسْأَلَةِ الْإِكْرَارِ وَلَا صُورَةَ هُنَا مُنْفَصِلَةٌ.
وَقولهُ (وَالْجَوْزُ بِدُهْنِهِ وَاللَّبَنُ بِسَمْنِهِ وَالْعِنَبُ بِعَصِيرِهِ وَالتَّمْرُ بِدِبْسِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ) يَعْنِي إنْ كَانَ الدُّهْنُ الْمُفْرَدُ وَالسَّمْنُ وَالدُّبْسُ أَكْثَرَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْجَوْزِ وَاللَّبَنِ وَالتَّمْرِ جَازَ، وَقَدْ عَلِمْت تَقْيِيدَهُ بِمَا إذَا كَانَ الثُّفْلُ لَهُ قِيمَةٌ وَأَظُنُّ أَنْ لَا قِيمَةَ لِثُفْلِ الْجَوْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيعَ بِقِشْرِهِ فَيُوقَدَ، وَكَذَا الْعِنَبُ لَا قِيمَةَ لِثُفْلِهِ فَلَا تُشْتَرَطُ زِيَادَةُ الْعَصِيرِ عَلَى مَا يَخْرُجُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَاخْتَلَفُوا فِي الْقُطْنِ بِغَزْلِهِ) فَبَعْضُهُمْ لَا يُجَوِّزُ مُتَسَاوِيًا لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَهُوَ كَالْحِنْطَةِ مَعَ الدَّقِيقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَا يَجُوزُ إلَّا مُتَسَاوِيًا لِأَنَّ أَصْلَهُمَا وَاحِدٌ وَكِلَاهُمَا مَوْزُونٌ، وَإِنْ خَرَجَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْ الْوَزْنِ جَازَ مُتَفَاضِلًا.
وَبَيْعُ الْغَزْلِ بِالثَّوْبِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ بَيْعَ الْقُطْنِ بِالثَّوْبِ لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَهَكَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْمَحْلُوجِ بِالْقُطْنِ وَالْغَزْلِ بِالْقُطْنِ إذَا كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ الْخَالِصَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الْآخَرِ وَهَذَا فِي الْمَحْلُوجِ مَعَ الْقُطْنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْفَاضِلَ بِإِزَاءِ حَبِّ الْقُطْنِ وَهُوَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ يُعْلَفُ لِبَعْضِ الدَّوَابِّ.
وَأَمَّا فِي الْغَزْلِ فَكَأَنَّهُ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْ الْقُطْنِ الْمُفْرَدِ بِإِزَاءِ صَنْعَةِ الْغَزْلِ، فَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْأَقْوَالِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا دُونَ الرِّوَايَاتِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا) وَمُرَادُهُ لَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ؛ فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَا الْمَعْزُ مَعَ الضَّأْنِ وَكَذَا مَعَ الْعِرَابِ الْبَخَاتِيِّ.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ.
وَلَنَا أَنَّ الْأُصُولَ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لَا يَكْمُلَ نِصَابُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَكَذَا أَجْزَاؤُهَا إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ.
قَالَ: (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ) لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَصْلَيْهِمَا، فَكَذَا بَيْنَ مَاءَيْهِمَا وَلِهَذَا كَانَ عَصِيرَاهُمَا جِنْسَيْنِ.
وَشَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللُّحُومِ) جَمْعُ لَحْمٍ (الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُرَادُهُ لَحْمُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ أُصُولِهَا وَلَمْ يَحْدُثُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهَا زِيَادَةٌ تُصَيِّرُهُ جِنْسَيْنِ (فَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْجَوَامِيسُ) فَـ (جِنْسٌ وَاحِدٌ) لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ الْبَقَرِ بِلَحْمِ الْجَامُوسِ مُتَفَاضِلًا (وَكَذَا الْمَعْزُ مَعَ الضَّأْنِ وَالْعِرَابُ مَعَ الْبَخَاتِي) لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مَعَ الْآخَرِ مُتَفَاضِلًا لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ لَحْمِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الطُّيُورِ كَالسَّمَّانِ مَثَلًا وَالْعَصَافِيرِ مُتَفَاضِلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالَ الرِّبَا إذْ لَا يُوزَنُ لَحْمُ الطَّيْرِ وَلَا يُكَالُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ لُحُومِ الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْإِوَزُّ لِأَنَّهُ يُوزَنُ فِي عَادَةِ دِيَارِ مِصْرَ بِعَظْمِهِ.
وَقولهُ وَمُرَادُهُ إلَى آخِرِهِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ قول مَالِكٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ اللُّحُومَ كُلَّهَا ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الطُّيُورُ جِنْسٌ، وَالدَّوَابُّ أَهْلِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالْبَحْرِيَّاتُ (وَكَذَا أَلْبَانُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ (وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اللُّحُومَ وَالْأَلْبَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ) مِنْ الْكُلِّ وَهُوَ التَّغَذِّي، وَهَذَا قول الشَّافِعِيِّ غَيْرُ الْمُخْتَارِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ قولهِ أَنَّهُ مِثْلُ قولنَا، ثُمَّ دُفِعَ هَذَا الْقول بِأَنَّ أُصُولَهَا (مُخْتَلِفَةُ) الْأَجْنَاسِ فَكَذَا أَجْزَاؤُهَا إذَا لَمْ تَتَبَدَّلْ بِالصَّنْعَةِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَدُّ أَجْنَاسًا، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مُتَفَاضِلًا (وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ بِخَلِّ الْعِنَبِ) مُتَفَاضِلًا وَكَذَا عَصِيرُهُمَا (لِاخْتِلَافِ أَصْلَيْهِمَا) جِنْسًا، وَتَخْصِيصُ الدَّقَلِ وَهُوَ رَدِيءُ التَّمْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، لِأَنَّ الدَّقَلَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْعَادَةِ يُتَّخَذُ خَلًّا (وَ) أَمَّا (شَعْرُ الْمَعْزِ وَصُوفُ الْغَنَمِ) فَـ (جِنْسَانِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ) بِخِلَافِ لَحْمِهِمَا وَلَبَنِهِمَا جُعِلَ جِنْسًا وَاحِدًا كَمَا ذَكَرْنَا لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ مَعَ عَدَمِ الِاخْتِلَافِ، فَإِنَّ مَا يُقْصَدُ بِالشَّعْرِ مِنْ الْآلَاتِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِالصُّوفِ فَصَارَ مَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْأُمُورِ الْمُتَفَرِّعَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: اخْتِلَافُ الْأُصُولِ، وَاخْتِلَافُ الْمَقَاصِدِ، وَزِيَادَةُ الصَّنْعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: بِالنَّظَرِ إلَى اتِّحَادِ الْأَصْلِ فِي الصُّوفِ وَالشَّعْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا مُتَفَاضِلًا وَزْنًا، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَقَاصِدِ اُخْتُلِفَ فَيَجُوزُ مُتَفَاضِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ مُتَفَاضِلًا تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ دَلِيلِهِمَا وَتَسَاوِيهِمَا فَيُرَجَّحُ الْمُحَرَّمُ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُقَاوِمُ الصُّورَةُ الْمَعْنَى، وَأَلْزَمَ عَلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الْمَعْنَى كَوْنَ أَلْبَانِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ جِنْسًا وَاحِدًا لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ.
وَأُجِيبُ بِمَنْعِ اتِّحَادِهِ فَإِنَّ لَبَنَ الْبَقَرِ يُقْصَدُ لِلسَّمْنِ وَلَبَنَ الْإِبِلِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ ذَلِكَ، وَكَذَا أَغْرَاضُ الْآكِلِ تَتَفَاوَتُ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَطِيبُ لَهُ الْبَقَرُ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ دُونَ الضَّأْنِ وَكَذَا فِي الْإِبِلِ.
وَمِنْ الِاخْتِلَافِ بِالصَّنْعَةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَوَازِ بَيْعِ إنَاءَيْ صُفْرٍ أَوْ حَدِيدٍ أَحَدُهُمَا أَثْقَلُ مِنْ الْآخَرِ، وَكَذَا قَمْقَمَةٌ بِقُمْقُمَتَيْنِ وَإِبْرَةٌ بِإِبْرَتَيْنِ وَسَيْفٌ بِسَيْفَيْنِ وَدَوَاةٌ بِدَوَاتَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَيَمْتَنِعُ التَّفَاضُلُ وَإِنْ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الصِّيَاغَةِ عَلَى تَرْكِ الْوَزْنِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْعَدِّ وَالصُّورَةِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَكَذَا شَحْمُ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا.
الشَّرْحُ:
(وَيَجُوزُ بَيْعُ شَحْمِ الْبَطْنِ بِالْأَلْيَةِ أَوْ بِاللَّحْمِ) وَاللَّحْمِ بِالْأَلْيَةِ مُتَفَاضِلًا (لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ لِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا) وَأَمَّا شَحْمُ الْجَنْبِ وَنَحْوِهِ فَتَابِعُ اللَّحْمِ وَهُوَ مَعَ شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ جِنْسَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَسِيئَةً لِأَنَّ الْوَزْنَ يَجْمَعُهُمَا، وَأَمَّا الرُّءُوسُ وَالْأَكَارِعُ وَالْجُلُودُ فَيَجُوزُ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَمَا كَانَ لَا نَسِيئَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُضْبَطْ بِالْوَصْفِ حَتَّى إنَّ السَّلَمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا) لِأَنَّ الْخُبْزَ صَارَ عَدَدِيًّا أَوْ مَوْزُونًا فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ، وَهَذَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ نَسِيئَةً جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ نَسِيئَةً يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ جَائِزٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ وَالْخَبَّازِ وَالتَّنُّورِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بِهِمَا لِلتَّعَامُلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا) يَدًا بِيَدٍ قِيلَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ (لِأَنَّ الْخُبْزَ صَارَ) إمَّا (عَدَدِيًّا) فِي عُرْفٍ (أَوْ مَوْزُونًا) فِي عُرْفٍ آخَرَ (فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكِيلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْحِنْطَةُ مَكِيلَةٌ) فَبِفَرْضِ كَوْنِ الْجِنْسِيَّةِ جَمَعَتْهُمَا اخْتَلَفَ الْقَدْرُ فَجَازَ التَّفَاضُلُ، وَالدَّقِيقُ إمَّا كَيْلِيٌّ فَكَذَلِكَ أَوْ وَزْنِيٌّ عَلَى مَا عَلَيْهِ عُرْفُ بِلَادِنَا، وَمَنْ جَعَلَهُ وَزْنِيًّا لَمْ يُثْبِتْ الْجِنْسِيَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُبْزِ فَيَجُوزَ التَّفَاضُلُ أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لِنَفْيِ الْجَوَازِ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِلنَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ، وَبِهَذَا الْقول قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ، إذْ فِي الْخُبْزِ أَجْزَاءُ الدَّقِيقِ، أَوْ أَنَّ الدَّقِيقَ بِعَرَضٍ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا فَيُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ وَلَا يُدْرَى ذَلِكَ.
(وَالْفَتْوَى عَلَى الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْجَوَازُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا كَيْفَمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ (وَهَذَا إذَا كَانَا نَقْدَيْنِ) فَأَمَّا بَيْعُهُمَا نَسِيئَةً (فَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ نَسِيئَةً) أَوْ الدَّقِيقُ بِأَنْ أَسْلَمَ الْخُبْزَ فِيهِمَا فَدَفَعَهُ نَقْدًا (جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ) نَسِيئَةً بِأَنْ أُسْلِمَ حِنْطَةٌ أَوْ دَقِيقًا فِي خُبْزٍ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدٍّ لَهُ فَإِنَّهُ يَتَفَاوَتُ فِي الصَّنْعَةِ عَجْنًا وَخَبْزًا، وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ عِنْدَهُ وَيَكُونُ مِنْهُ الثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ (وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ وَزْنِيٌّ) أَوْ يَجُوزُ بِشَرْطِ الْوَزْنِ إنْ كَانَ الْعُرْفُ فِيهِ الْعَدَدَ وَالنُّضْجَ وَحِسَّ الْعَجْنِ وَصِفَاتٍ مَضْبُوطٍ نَوْعُهُمَا وَخُصُوصُ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَجْنِ وَالنَّارِ مُهْدَرٌ.
وَاخْتَارَهُ الْمَشَايِخُ لِلْفَتْوَى إذَا أَتَى بِشَرَائِطِهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ وَقْتَ الْقَبْضِ حَتَّى يُقْبَضَ مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي سُمِّيَ حَتَّى لَا يَصِيرَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا قُبِضَ مُتَجَوِّزًا مَا هُوَ دُونَ مَا سُمِّيَ صَنْعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ فِي مَنْعِهِ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَقَعَ الْأَخْذُ مِنْ النَّوْعِ الْمُسَمَّى خُصُوصًا فِيمَنْ يَقْبِضُ الْمُسَلَّمَ فِيهِ فِي أَيَّامٍ مُتَعَدِّدَةٍ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا كَذَا رَغِيفًا فَقَلَّ أَنْ لَا يَصِيرَ مُسْتَبْدَلًا (وَلَا خَيْرَ فِي اسْتِقْرَاضِ الْخُبْزِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْخُبْزِ وَالْخَبَّازِ وَالتَّنُّورِ) بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ جَدِيدًا أَوْ عَتِيقًا (وَالتَّقْدِيمُ) فِي التَّنُّورِ (وَالتَّأْخِيرُ) عَنْهُ وَيَتَفَاوَتُ جَوْدَةُ خُبْزِهِ بِذَلِكَ، وَإِذَا مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِيهِ وَبَابُ السَّلَمِ أَوْسَعُ حَتَّى جَازَ فِي الثِّيَابِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا فَهُوَ لِاسْتِقْرَاضِهِ أَمْنَعُ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بِهِمَا) أَيْ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا (لِلتَّعَامُلِ) بَيْنَ الْجِيرَانِ بِذَلِكَ، وَالْحَاجَةُ قَدْ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ بَيْنَ الْجِيرَانِ.
(وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ) وَمُحَمَّدٌ يَقول: قَدْ أَهْدَرَ الْجِيرَانُ تَفَاوُتَهُ وَبَيْنَهُمْ يَكُونُ اقْتِرَاضُهُ غَالِبًا، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ، وَجَعَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْفَتْوَى عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ، وَأَنَا أَرَى أَنَّ قول مُحَمَّدٍ أَحْسَنُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَهَذَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ لَيْسَ مِلْكَ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقَ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ، أَيْ الْمَأْذُونِ غَيْرِ الْمَدْيُونِ (لِأَنَّهُ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْبَيْعِ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ (فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ) أَيْ الْبَيْعُ بِطَرِيقِ الرِّبَا (أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فَلِعَدَمِ مِلْكِهِ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا (وَعِنْدَهُمَا) إنْ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَمَّا فِي يَدِهِ لَكِنْ (تَعَلَّقَ بِمَا) فِي يَدِهِ (حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ) الْمَوْلَى (كَالْأَجْنَبِيِّ) عَنْهُ (فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا) بَيْنَهُمَا (كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ) وَفِي الْمَبْسُوطِ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا، وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ كَسْبَهُ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ لَا بِجِهَةِ الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ لَا، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْحُرِّ يَدًا وَتَصَرُّفًا فِي كَسْبِهِ فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهُمَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
لَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا.
وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُسْلِمِ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا؛ فَلَوْ بَاعَ مُسْلِمٌ دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْتَأْمَنًا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ حَلَّ، وَكَذَا إذَا بَاعَ مِنْهُمْ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ قَامَرَهُمْ وَأَخَذَ الْمَالَ يَحِلُّ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمَنْ ذَكَرْنَا، (لَهُمْ) إطْلَاقُ النُّصُوصِ فَإِنَّهَا لَمْ تُقَيِّدْ الْمَنْعَ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَأْمِنِ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا، فَإِنَّ الرِّبَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَهُ فَكَذَا الدَّاخِلُ مِنَّا إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ، وَنَقَلَ مَا رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَشْيَخَةِ حَدَّثَنَا عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «لَا رِبَا بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ» أَظُنُّهُ قَالَ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، أَسْنَدَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَمَكْحُولٌ ثِقَةٌ، وَالْمُرْسَلُ مِنْ مِثْلِهِ مَقْبُولٌ، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: {الم غُلِبَتْ الرُّومُ} الْآيَةَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ لَك أَنْ تُخَاطِرَنَا، فَخَاطَرَهُمْ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ» فَفَعَلَ، وَغَلَبَتْ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ شِرْكٍ (وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ) وَإِطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي مَالٍ مَحْظُورٍ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الْغَدْرِ (فَإِذَا لَمْ يَأْخُذْ غَدْرًا فَبِأَيِّ طَرِيقٍ يَأْخُذُهُ حَلَّ) بَعْدَ كَوْنِهِ بِرِضًا (بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْهُمْ) عِنْدَنَا (لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالْأَمَانِ) فَإِذَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعَةِ يَكُونُ غَدْرًا، وَبِخِلَافِ الزِّنَا إنْ قِيسَ عَلَيْهِ الرِّبَا لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ بَلْ بِالطَّرِيقِ الْخَاصِّ، أَمَّا الْمَالُ فَيُبَاحُ بِطِيبِ النَّفْسِ بِهِ وَإِبَاحَتِهِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ لِمُعَارَضَةِ إطْلَاقِ النُّصُوصِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ حُجِّيَّةِ حَدِيثِ مَكْحُولٍ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ سُلِّمَ حُجِّيَّتُهُ فَالزِّيَادَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ، وَإِثْبَاتُ قَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُطْلَقِ مِنْ نَحْوِ {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} وَنَحْوِهِ هُوَ الزِّيَادَةُ فَلَا يَجُوزُ.
وَيُدْفَعُ بِالْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُطْلَقَاتِ مُرَادٌ بِمَحَلِّهَا الْمَالُ الْمَحْظُورُ بِحَقٍّ لِمَالِكِهِ، وَمَالُ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ مَحْظُورًا إلَّا لِتَوَقِّي الْغَدْرِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِي التَّحْقِيقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ خَبَرُ مَكْحُولٍ أَجَازَهُ النَّظَرُ الْمَذْكُورُ، أَعْنِي كَوْنَ مَالِهِ مُبَاحًا إلَّا لِعَارِضِ لُزُومِ الْغَدْرِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي حِلَّ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ يَنَالُهَا الْمُسْلِمُ، وَالرِّبَا أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ إذْ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ الدِّرْهَمَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِ وَمِنْ جِهَةِ الْكَافِرِ، وَجَوَابُ الْمَسْأَلَةِ بِالْحِلِّ عَامٌّ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَا الْقِمَارُ قَدْ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ مَالُ الْخَطَرِ لِلْكَافِرِ بِأَنْ يَكُونَ الْغَلَبُ لَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ تُفِيدُ نَيْلَ الْمُسْلِمِ الزِّيَادَةَ، وَقَدْ الْتَزَمَ الْأَصْحَابُ فِي الدَّرْسِ أَنَّ مُرَادَهُمْ مِنْ حِلِّ الرِّبَا وَالْقِمَارِ مَا إذَا حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُسْلِمِ نَظَرًا إلَى الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ إطْلَاقُ الْجَوَابِ خِلَافَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.